الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قلت: { جميعاً } حال مؤكدة من { ما } ، و { ثم } للترتيب الذكري لا الخارجي لأن دحو الأرض مؤخر عن خلق السماء، إلا أن يكون العطف على معنى الجملة، والتقدير: هو الذي خلق لكم الأرض مشتملة على جميع منافعكم، ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبعاً، ثم دحا الأرض وبسطها. والتسوية: خلق الأشياء سالمة من العوج والخلل، و { سبع }: بدل من الضمير، أو بيان له، وجملة { وهو بكل شيء عليم } تعليل لما قبله. أي: ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع. يقول الحقّ جلّ جلاله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ } لأجلكم { ما } استقر { فِي الأرْضِ جَمِيعاً } تنتفعون به في الظاهر قوتاً لأشباحكم، ودواء لأبدانكم، ومتعة لنفوسكم، وتنتفعون به في الباطن بالتفكر والاعتبار، وزيادة في إيمانكم وقوة لإيقانكم، ثم قصد { إلَى السَّمَاءِ } قصد إرادة، فخلقهن { سَبْعَ سَمَوَاتِ } مستوية تامة، ليس فيها تفاوت ولا خلل، تظلكم بِجِرْمِها، وتضي عليكم بشمسها وقمرها وكواكبها، وقد أحاط علمه بالأشياء كلها، فلذلك خلقها على هذا النمط الغريب والإتقان العجيب. الإشارة: يا عبادي خلقتُ الأشياء كُلَّها من أجلكم، الأرض تُقلكم، والسماء تُظلكم، والجهات تَكْتَنِفُكُمْ والحيوانات تخدُمكم، والنباتات تنفعكم، وخلقتكم من أجلي، فكيف تميلون إلى غيري، وتنسَوْن إحساني وبرِّي؟!!! الأشياء كلها عبيدكم وأنتم عبيد الحضرة، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكَوِّنَ، فإذا شهدتَ المكوِّنَ كانت الأكوانُ معك ". وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى: " يا عبدي إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها، فإن ادعيتها لنفسك سلبتُك الولاية، ولم أسلبك صفاتي، يا عبدي: أنت صفتي وأنا صفتك، فارجع إليَّ أرجع إليك، يا عبدي: فيك للعلوم باب مفاتحه أنا، وفيك للجهل باب مفاتحه أنت، فاقصد أيّ البابين شئت، يا عبدي: قربي منك بقدر بعدك عن نفسك وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك، فقد عرفتك الطريق، فاترك نفسك تصل إليَّ في خطرة واحدة، يا عبدي: كل ما جمعك علي فهو مني، وكل ما فرقك عني فهو منك، فجاهد نفسك تصل إليّ، وإني لغني عن العالمين، يا عبدي: إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية، وإن تركتها عندك فهي أعظم بلية، فهي أعدى الأعادي إليك فجاهدها تَعُدْ بالفوائد إليك ". وفي بعض الآثار المروية عن الله تعالى: " يا عبدي: أنا بُدُّك اللازم فالزم بُدَّك ". ويمكن أن يشار بالأرض إلى أرض العبودية، وبالسماء إلى سماء الحقيقة، وبالسبع سماوات إلى سبع مقامات وهي الصبر والشكر والتوكل والرضى والتسليم والمحبة والمعرفة. والله تعالى أعلم. ولما ذكر الخلق العالم العلوي والسفلي، ذكر كيفية ابتداء من عمَّر العالم السفليَّ من جنس الآدمي.