الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } * { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

قلت: من قرأ: { لا نفرق } بالنون، فعلى حذف القول، أي: قالوا: لا نفرق، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل، أي: لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله، و { بين }: من الظروف النسبية، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء، تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين رجلين، أو رجال، ولا تقول بين زيد فقط، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة، أي: لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: " ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ، سُودِ الرؤوس، غيركم " و { غفرانك }: مفعول مطلق، أي: اغفر لنا غفرانك. أو: نطلب غفرانك، فيكون مفعولاً به. يقول الحقّ جلّ جلاله: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إيمان تحقيق وشهود { والمؤمنون } كل على قدر إيقان، { كل } واحد منهم { آمن بالله } على ما يليبق به من شهود وعيان، أو دليل وبرهان، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمونلاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التّحْريم: 6]، { وكتبه } وأنها كلام الله، مشتملة على أمر وني ووعد ووعيد وقصص وأخبار، وما عرف منها كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجب الإيمان به بعينه، وما لم يعرف وجب الإيمان به في الجملة، { ورسله } وأنهم بشر متصفون بالكمالات، منزّهون عن النقائص، كما يليق بحالهم، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين { لا نفرق بين أحد من رسله } أو: { لا يفرق } كل منهم بين أحد من رسله بأن يصدقوا بالبعض، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى، { وقالوا } أي المؤمنين { سمعنا وأطعنا } أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك، نطلب { غفرانك } يا ربنا { وإليك المصير } بالبعث والنشور، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان. فلمّا تحقق إيمانُهم، وتيقن إذعانُهم، خفَّف الله عنهم بقوله: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي: إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي فجائز التكليف به، وأما المحال العقلي فيمتنع. إذ لا يتصور وقوعه، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه، فكل نفس { لها ما كسبت } من الخير فتوفى أجره على التمام، { وعليها ما اكتسبت } من الشر، فترى جزاءه، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام. وعبر في جانب الخير بالكسب، وفي جانب الشر بالاكتساب، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله، والشر إلى العبد، فتأمله. ثم قالوا في تمام دعائهم: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، أي: لا تؤاخذنا بما أدى إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة، وفي الحديث: " إنّ الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسَها " ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناول السم ويؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ - فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً.

السابقالتالي
2 3