الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قلت: الربوة - مثلثة الراء -: المكان المرتفع، والوابل: المطر الغزير، والطل: المطر الخفيف، وفي ذلك يقول الراجز:
والطلُّ ما خفَّ من الأمْطَارِ والوابلُ الغزيرُ ذو أنْهِمَارِ   
و { ابتغاء مَرْضات الله } و { تثبيتاً }: حالان من الوافي في: { ينفقون } ، أو مفعولان له. والتثبيت بمعنى التثبت، أي: التحقق، كقوله تعالى:وَتَبَتَّلْ إِلَيْه تَبْتِيلاً } [المُزمّل: 8] أي: تبتلاً. يقول الحقّ جلّ جلاله: { مثل الذين ينفقون أموالهم } في سبيل الله { ابتغاء مرضات الله } وتحققاً { من أنفسهم } بثواب الله، أو تحقيقاً من أنفسهم بالوصول إلى رضوان الله إن بذلوا أموالهم في طلب رضى الله، مَثَلُ نفقتهم في النمو والأرتفاع { كمثل جنة } أي: بستان { بربوة } بمكان مرتفع، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً، { أصابها وابل } أي: مطر غزير { فآتت أكلها } أي: ثمارها { ضعفين } أي: مِثْلَيْ ما كانت تثمر في عادتها، أي: حملت في سَنَةٍ ما يحمل غيرها في سنتين، بسبب هذا المطر الذي نزل بها، { فإن لم يصبها وابل فطل } أي: فيصيبها طل، أي: مطر قليل يكفيها لطيب تربتها وارتفاع مكانها، فأقلُّ شيء يكفيها. والمراد: أن نفقات هؤلاء، لإخلاصهم وكمال يقينهم، كثيرة زاكية عند الله، وإن كانت قليلة في الحس فهي كثيرة في المعنى. وفي الحديث: " مَنْ تصدَّقَ ولو بلُقْمة وقعتْ في كَفٍّ الرحمن فيُرَبِّيها كما يُربى أحدُكُم فلُوَّهُ أو فَصِيله، حتى تكونَ مثل الجبل " وفي قوله: { والله بما تعلمون بصير }: تحذير من الرياء، وترغيب في الإخلاص. الله تعالى أعلم. الإشارة: تنمية الأعمال على قدر تصفية الأحوال، وتصفية الأحوال على قدر التحقق بمقامات الإنزال، أي: على قدر التحقق بالإنزال في مقامات اليقين، فكل من تحقق بالنزول في مقامات اليقين، ورسخت قدمه فيها، كانت أعماله كلها عظيمة، مضاعفة أضعافاً كثيرة، فتسبيحة واحدة من العارف، أن تهليلة واحدة، تعدل الوجود بأسره، ولا يزنها ميزان، وكذلك سائر أعمال العارف: كلها عظيمة مضاعفة لأنها بالله ومن الله وإلى الله، وما كان بالله ومن الله يطرقه نقص ولا يشوبه خلل، ولأجل هذا صارت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وأماكنهم كلها عرفات، وأنفاسهم كلها زكيات، وصحبتهم كلها نفحات، ومخالطتهم كلها بركات. نفعنا الله بذكرهم وخرطنا في سلكهم. آمين.