الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: ولما برز طالوت بمَن معه { لجالوتَ } ، أي: ظهر في البرَاز، ودنا بعضهم من بعض، تضرعوا إلى الله واستنصروه، وقالوا: { ربنا أفرغ علينا صبراً } أي: أصْبُبْه علينا صبّاً، { وثبت أقدامنا } عند اللقاء لئلا نَفِرّ، { وانصرنا على القوم الكافرين }. وفي دعائهم ترتيب بليغ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً. فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته، { وقتل داود جالوت }. وقصة قتله: أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة، وكان داود صغيراً يرعى غنماً، فلما حضرت الحرب قال في نسفه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فمرَّ في طريقه، بحجر فناداه: يا داود خُذْني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها، وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز، وكاع الناس عنه، أي: تأخروا خوفاً، حتى قال طالوت: من بيرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي، وأُحَكِّمُهُ في مالي، فجاء داود، فقال له طالوت: اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع، فقال الناس: جَبُنَ الفتى، فقال داود: إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي. وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في السلاح، فقال جالوت: أنت يا فتى تخرج إليّ! قال: نعم، قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال: نعم، وأنت أهون، قال: لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع، وسَمَّى الله، وأداره، ورماه، فأصاب رأس جالوت فقتله، وجزّ رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة. ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال: حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، فدفع إليه امرأته وتخلّى له على الملك. ولما تمكن داود - عليه السلام - من الملك، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف. فآتي اللّهُ داود { الملك والحكمة } وهي النبوة، وقيل: صنعة الدروع ومنطق الطير { وعلمه مما يشاء } من أنواع العلوم والمعارف والأسرار، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، فينصر المسلمين على الكافرين، ويكف فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض.

السابقالتالي
2