فإن قلت: الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإِنْ الدالة على الشك والتردد؟ قلت: { إن } جازمة للفظ الشرط أو محله، موضوعة للشك في الشرط. و " إذا " لا تجزم في اللفظ، وتدل على الجزم في المعنى، وفي ذلك يقول القائل:
إنا إنْ شَككتُ وجدْتُموني جَازِماً وإذا جَزمتُ فإنني لَمْ أجزمِ
فإن قلت: الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإنْ الدالة على الشك والتردد؟ قلت: لما كان ريبهم واقعاً في غير محله - إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان - كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد في وقوعه، والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر، أُطْلِقَ على الأصنام لأنهم يزعمون أنها تشهد لهم، ومعنى دون: أدنى مكان من الشيء، ثم استعير للرُّتَب فقيل: زيد دون عمرو أي: في الشرف، ثم اتسع فيه فاستعير لكل تجاوزِ حدّ إلى حد، وتخطّي أمرٍ إلى آخر. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وَإِن كُنتُمْ } يا معشر الكفار { فِي } شك { مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى } محمد { عَبْدِنَا } ورسولنا المختار لِسِرّ وحينا، { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن } جنسه في البلاغة والفصاحة، مشتملة على علوم وأسرار ومغيبات كما اشتمل عليه كتابي، { وَادْعُوا } من استطعتم ممن تنتصرون به على ذلك الإتيان، مِن آلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به { مِن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنها تنفعكم. { فَإن لَّمْ } تقدروا أن { تَفْعَلُوا } ذلك { ولَن } تقدروا ابداً فأسلموا وأقرُّوا بالحق، و { اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أي: حجارة الكبريت، فَهُمَا حطبُها ووقودها { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ }. { وَبَشِّرِ } يا محمد ويا مَن يصلح منه التبشير { الَّذِينَ آمَنُوا } بالله ورسوله، { وَعَمِلُوا } ما كلفوا به من الأعمال { الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارِ } أي: من تحت قصورها، وهي أنهار من ماء، وأنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين. { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } أي: صنفاً، { قَالُوا هَذَا الَّذِين رُزقْنَا مِن قَبْلُ } في دار الدنيا، فإن الطباع تميل إلى المألوف، فالصفة متفقة والطعم مختلف. أو في الجنة، قيل: هذا لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنةِ لَيتَناولُ الثمرة لِيأكلهَا فما هي واصِلةٌ إلى جَوفِه حتى يبدل الله تعالى مكانها مِثلَها " ، فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، لفرط استغرابهم، وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } أي: حور { مُّطَهَّرَةٌ } من الحيض، وسائر الأدناس، ومن الأخلاق المذمومة، والشيم الذميمة، { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فإن النعيم إذا كان يعقُبه الفناء تنغّص على صاحبه، كما قال الشاعر: