الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قلت: القرض هو القطع، أطْلِقَ على السلف لأن المُقْرِضَ يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف، والمراد بها الصدقة لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها فأشبهت القرض في مطلق الرد. يقول الحقّ جلّ جلاله: مَنْ هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه { قرضاً حسناً } بأن بتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة، فيُكثرها الله تعالى له { أضعافاً كثيرة } بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة فإن الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه، بل يقبض على من قبض يده شحّاً وبخلاً، ويبسط على من بسط يده عطاءً وبذلاً، يقول: " يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنِفقْ عليك " ، " أُنْفِقْ ولا تَخْش مِنْ ذِي العَرِشَ إِقلالاً ". ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للإفهام، كما قال في الحديث القدسي: " يقول الله تعالى يوم القيامة: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني، قَالَ: يَا رَبّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالِّمِين؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ. أَمَا إِنَكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتِني. يَا ابْنَ آدَم اسْتَطْعَمتُكَ فَلَمْ تُطْعِمني. قال: يَا رَبّ! كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعمْه؟ أَمَأ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذَلكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيتك فَلَمْ تَسْقِيني. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قال: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تسْقِه. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ". الإشارة: من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين، ويرفع همته عن الكونين، فإن الله { يضاعفه له أضعافاً كثيرة } بأن يُمَلِّكَهُ الوجودَ بما فيه، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك " ، { والله يقبض ويبسط } فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك، إن رفعت همتك عنه، ويبسط يدك بالتصرف فيه، إن علقت عمتك بخالقه. أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة، ويبسطها بالإيناس والبهجة. أو يقبض الأرواح بالوفاة، ويبسطها بالحياة. والقبض والبسط عند أهل التصوف: حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضاً، وإذاغلب حال الرجاء كان مبسوطاً، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لنهم مالكوا الأحوالَ. قال القشيري: فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه. فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة، ويأخذه مَرَّة عن نعوته، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة، قال الشَّبْلِي رضي الله عنه: من عَرَفَ الله حمَل السماوات والأرض على شعرة من جَفْن عينه، ومن لم يعرف الله - جلّ وعلا - لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ.

السابقالتالي
2