الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

قلت: الاستفهام للتعجب والتشويق، والرؤية قلبية، والواو للحال، و { حَذَرَ } مفعول من أجله. يقول الحقّ جلّ جلاله: ألم تنظر يا محمد، بعين الفكر والاعتبار، { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } عشرة، أو ثلاثون، أو أربعون، أو سبعون، حذراً من { الموت } في زمن الطاعون. وكانوا في قرية يقال لها: داوردان فلما وقع بها الطاعون، خرجت طائفة هاربين، وبقيت أخرى، فهلك أكثر من بقي، وسلم الخارجون، ثم رجعوا، فقال الباقون: لو صنعنا مثلهم لبقينا، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا، فأصابهم من قابل، فهربوا كلهم، ونزلوا وادياً أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه، أن: موتوا، فماتوا كلهم أجمعون، ومرت عليهم مدة ثمانية أيام أو أكثر حتى انتفخوا، وقيل: صاروا عظاماً، فمرَّ عليهم نبيّ الله حزقيل، فدعا الله تعالى، واستشفع فيهم، فأحياهم الله، وعاشوا دهراً، عليهم سيما الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن، واستمر في أسباطهم. هـ. قال الأصمعي: لما وقع الطاعون بالبصرة، خرج رجل منها على حمار معه أهله، وله عبد يسوق حماره، فأنشأ العبد يقول:
لن يُسبَقَ اللّهُ على حِمار ولا على ذي مَشعَةٍ طَيّار قَدْ يُسبحُ الله أمَامَ السارِي   
فرجع الرجل بعياله. والآية تدل على أن الفرار من الطاعون حرام في تلك الشريعة، كما حرم في شرعنا، وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا سَمِعْتُمْ هذا الوباء بِبلد فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِبلد وَأَنْتُمْ فيه فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهُ ". قلت: وقد اختلف الأئمة في حكم الفرار والقدوم: فمنهم من شهر المنع فيهما تمسكاً بظاهر الحديث، ومنهم من شهر الكراهة، والمختار في الفرار: التحريم، وفي القدوم: التفصيل، فمن قوي يقينه، وصفا توحيده، حَلَّ له القدوم، ومن ضعف يقينه، بحيث إذا أصابه شيء نسب التأثير لغير الله حرم عليه القدوم. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قلت: يا رسول الله، ما الطاعون؟ قال: " غدة كغدة البعير، المقيم فيه كالشهيد، والفارُّ منه كالفار من الزحْف " قال ابن حجر: كون المقيم فيه له أجر شهيد إنما بشرط أن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن يسلم إليه أمره ويرضى بقضائه، وأن يبقى في مكانه ولا يخرج منه بقصد الفرار، فإذا اتصف الجالس بهذه القيود حصل له أجر الشهادة، ودخل تحته ثلاث صور، الأولى: من اتصف بذلك فوقع له الطاعون ومات فهو شهيد. والثانية: من وقع به ولم يمت به فهو شهيد وإن مات بعد ذلك. والثالثة: من لم يقع به أصلاً ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً فهو شهيد، إذا حصلت فيه القيود الثلاثة، ومن لم يتصف بالقيود الثلاثة فليس بشهيد، ولو مات بالطاعون، والله أعلم.

السابقالتالي
2