الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }

{ ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ... } قلت: الريب: تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام. يقول الحقّ جلَ جلاله: يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا { لا رَيْبَ فِيهِ } أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه، أو نسبه إلى غيرنا، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا، وحلّت عليه شدائد نقمتنا، ومن تحقق به أنه من لدنا، وآمن بمن جاء به من عندنا، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا، فإذا أحببته كنت له، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يتكلم... الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين، وكان في ذروة درجات المتقين، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين، كما أشار إلى ذلك بقوله: {... هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } قلت: { هدى } خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي: هو هاد للمتقين، أو فيه الهدى لهم. والهدى: هو الإرشاد والبيان، ومعناه: الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقي: من جعل بينه وبين مقت الله وقاية، وله ثلاث درجات: * حفظ الجوارح من المخالفات، * وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات، * وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات، فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله:فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التّغَابُن: 16]، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله:فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ } [المَائدة: 100]، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله:اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عِمرَان: 102]. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ذَلِكَ الكِتَابُ } الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية. قال جعفر الصادق: والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون. وقال أيضاً - وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال: ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته. فدرجات القراءة ثلاث: أدناها: أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال. والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. والثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار. فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضي الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم... آمين.