الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } * { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قلت: { إذا حضر } ظرف، العامل فيه: { كتب } ، أي: توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت. أو مصدر محذوف يفهم من الوصية، أي: كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت، و { الوصية } نائب فاعل { كتب } ، ولا يصح أن تعمل في { إذا } لتقدمه عليها لأن المصدر لا يعمل في ما قبله، إلا على مذهب الأخفش. اللهم إلا أن يُتوسع في الظروف، وجواب الشرطين محذوف، أي: إذا حضر الموت، إن ترك خيراً، فقد كُتبت عليه الوصية. والجنَف: الميل عن الصواب، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم. يقول الحقّ جلّ جلاله: كتب الله { عليكم } أن تُوصوا للوالدين والأقربين { إذا حضر أحَدكم الموتُ إن ترك } المستحضر { خيراً } أي: مالاً: قال سيّدنا عليّ - كرّم الله وجهه -: ألف درهم فصاعداً، فلا وصية في أقل. وقال النخعي: خمسمائة درهم لا أقل. وقال الزُّهْرِي: تجب فيما قلّ وكَثُر، وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رجلاً أراد أن يوصي، فسألته: كم مالُك؟ فقال: ثلاثة آلاف. فقالت: كم عِيالك؟ فقال: أربعة، فقالت: لا، إنما قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وإن هذا لَشيء يسير، فاتركْه لعيالك. وتكون تلك الوصية { بالمعروف } ، أي: بالعدل، فلا يُفضل الذكور، ولا يتجاوز الثلث. فقد حَقَّ الله ذلك { حقّاً } واجباً { على المتقين } ، فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود { بعدما سمعه } وعلمه، { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } من الأوصياء أو الشهود، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت، { إن الله سميع عليم } فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر، فهو حسيبُه ومُعاقبه، { فمن خاف } أي: علِم { من مُوص جنفّا } أي: ميلاً بالخطأ في الوصية، { أو إثماً } تعمداً للجنف، { فأصلح } بين المُوصَى لهم وبين الورثة، بأن أجراهم على منهاج الشرع، أو نقص للموصَى لهم، أو زاد لمصلحة رآها { فلا إثم عليه } لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى، { إن الله غفور رحيم } فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه. وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين: مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين، بقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحيدث المشهور: " إنَّ اللّهَ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ " فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة، والله تعالى أعلم. الإشارة: اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات - وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدن وهما الأشياخ، والأقربن وهم الإخوان.

السابقالتالي
2