الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

قلت: { عفا } لازمٌ يتعدى بالحرف: بعَنْ إلى الجناية، وباللام إلى الجاني، فيقال: عفوت لفلان عن جنايته و { ابتاعٌ } خبر عن مضمَر، أي: فالأمر اتباع، و { حياة } مبتدأ و { في القصاص } خبره، و { لكم } خبر ثان، أو صلة له، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى، جعل الشيء مجيء ضده، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم، أي: ولكم نوع من الحياة عظيم، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم. قاله البيضاوي. يقول الحقّ جلّ جلاله: يا أيها المؤمنون { كتب عليكم القصاص في } شأن { القتلى } في العَمْد، فاستسلِموا للقصاص، فالحُر يُقتل { بالحر } ، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده، ودليله قوله - عليه الصلاة والسلام-: " لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ " والعبد يقتل بالعبد، إن أراد سيد المقتول قتله، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد. وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر، والذكر يقتل بالأنثى. وتخصيصُ الآية بالمُساوي، قال مالك: أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية: أنه يُراد بها الجنسُ - أي: جنس الحر - والذكر والأنثى فيه سواء. وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية. هـ. يعني أن أل في الحر: للجنس، تشمل الذكر والأنثى. وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها. ثم قال الحقّ جلّ جلاله: { فمن عُفي له من } دم أخيه { شيء } ولو قَلَّ، فقد سقط القتل، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية { بالمعروف } من غير تعنيف ولا تعنيت، و { أداء } من القاتل { بإحسان } من غير مطل ولا بَخس. { ذلك } - الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة - { تخفيف من ربكم ورحمة } بكم، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى مطلقاً. وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص. { فمن اعتدى } بعد أخذ الديّة وقَتَل { فله عذاب أليم } في الدنيا والآخرة، في الدنيا: بأن يُقتل لا محالة لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة ". { ولكم } يا معشر المسلمين { في } تشريع { القصاص حياة } عظيمة في الدنيا، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد، فسلِموا من القتل بشروع القصاص، أو في الآخرة، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة، فاعتُبِروا { يا أولي الألباب } أي: العقول الكاملة، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، { لعلكم تتقون } الله في المحافظة على القصاص، والحكم به والإذعان له، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله.

السابقالتالي
2