قلت: الضمير في { فيها }: يعود على اللعنة أو النار، وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها، وتهويلاً لأمرها. يقول الحقّ جلّ جلاله في شأن أحبار اليهود حيث كتموا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم: { إن الذين يكتمون } ما أنزلناه عليهم في كتابهم من صفة محمد - عليه الصلاة والسلام - من الآيات لاواضحات في شأنه، وبيان صفته وبلده وشريعته، وما يهدي إلى وجوب اتباعه، والإيمان به، { من بعد ما بيناه للناس } في التوراة، { أولئك } الكاتمون { يلعنهم الله } ويطردهم عن ساحة رحمته، { ويلعنهم } الجن والإنس، وكل ما يتأتيى منه اللعن كالملائكة وغيرهم. { إلا الذين تابوا } من الكتمان، وكل ما يجب أن يتاب منه، { وأصلحوا } ما أفسدوا من الدين بالتدارك، { وبينوا } ما كتموا { فأولئك أتوب عليهم } وأرحمهم { وأنا التّواب الرحيم } أي: المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة، وأما من مات على الكفر ولم يتب فأولئك { عليهم لعنة الله } ، ومن يُعْتَدّ بلعنته من { الملائكة والناس أجمعين } خالدين في اللعنة أو في النار { لا يخفف عنهم العذاب } ساعة، ولا هم يمهلون عنه، أو لا ينتظرون للاعتذار أو الفداء. الإشارة: ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله -:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته: يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية؟. إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم. تنبيه: العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام: قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة. وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عن إذا طلبه. وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم. هنا انتهى العتاب لبني إسرائل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم... } ، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنركوه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجزَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار. فلما فرغ من عتابهم دلَّهم على التوحيد، وشاركهم في ذلك غيرهم.