الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } * { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } * { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

قلت: الذي يظهر أن { أم } منقطعة، بمعنى بل، على قراءة الخطاب والغيبة لأن المقصود إنكار وقوع الأمرين معاً، لا أحدهما. يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } يا محمد لأهل الكتاب: أتخاصموننا { في الله } وتقولون: أنتم أولى به منا { وهو ربنا وربكم } ، لا يختص به واحد دون آخر، { ولنا أعمالنا } نتقرب بها إليه، { ولكم أعمالكم } تتقربون بها أيضاً، فكيف تختصون به دوننا { ونحن له مخلصون } في أعمالنا وقلوبنا دونكم فإنكم أشركتم به غيره، فإن قلتم: إن الإنبياء كلهم منكم وعلى ملتكم فقد كذبتم، أتقولون { إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب } وأولاده { الأسباط كانوا هوداً } على دينكم يا معشر اليهود، { أو نصارى } على ملتكم يا معشر النصارى. { قل } لهم يا محمد: { أأنتم أعلم أم الله } وقد نفى الأمرين معاً عن إبراهيم فقال:مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمَاً } [آل عِمران: 67]، وقال:وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } [آل عِمرَان: 65]، وهؤلاء المعطوفون عليه: أتباعه في الدين، فليسوا يهوداً ولا نصارى، فكيف تدعون أنهم كلهم منكم، وعلى دينكم، وأنتم تشهدون أنهم لم يكونوا على دينكم؟ { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } ، وهي شهادة الحق لإبراهيم بالحنيفية، والبراءة من اليهودية والنصرانية، أي: لا أحد أظلم منه، وليس الله تعالى { بغافل عما تعملون } ، بل يجازيكم على النقير والقطمير، فإن اعتمدتم على نسبكم إليهم فقد اغتررتم. { تلك أمة } قد مضت، { لها ما كسبت } لا ينتفع به غيرها، { ولكم ما كسبتم } لا ينفعكم غيره، ولا تسألون عن عملهم كما لا يسألون عن أعمالكم، قال البيضاوي: كرره للمبالغة في التحذير، والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء، والاتكال عليهم، وقيل: الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا، تحذيراً عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في الأولى الأنبياء، وفي الثانية أسلاف اليهود والنصارى. هـ. الإشارة: كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص. فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص. فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون }. ولمّا أراد الله تعالى أن ينسخ القبلة من جهة الشام ويردها إلى الكعبة، أخبر أنه سيكرها قومٌ خَفَّتْ أحلامُهم، وفسدت بالتقليد الردي عقولُهم، وهم أحبار اليهود والمنافقون والمشركون.