الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قلت: { لو } مصدريةٌ مفعول { وَدَّ } ، و { كفاراً }: مفعول ثان، و { حسداً }: مفعول له، علة لود، أو حال من الواو، و { من عند } متعلق بود، أي: يتمنوا ذلك من عند أنفسهم وتَشهِّيهم، أو بقوله: { حسداً } ، فالوقف على قوله: { كفاراً } ، أي: حسداً حاصلاً من تلقاء أنفسهم، لم يستندوا فيه إلى شبهة ولا دليل، والعفو: ترك العقوبة بالذنب. والصفح: الإعراض عن المذنب، كأنه يولي عنه صفحة عنقه، فهو أبلغ من العفو. يقول الحقّ جلّ جلاله: في التحذير من اليهود وغيرهم من الكفار: تمنّى الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم لو يصرفونكم عن دينكم و { يردونكم من بعد إيمانكم } بنبيكم { كفاراً } ضالين، كما كنتم قبل الدخول فيه، وذلك { حسداً من } تلقاء { أنفسهم } غيرة أن تكون النبوة في غيرهم، وذلك { من بعد ما بين لهم الحق } وعرفوه كما يعرفون أبناءهم، { فاعفوا } عن عتابهم، وأعرضوا عن تشغيبهم { حتى يأتي الله بأمره } فيهم بالقتل والجلاء. { إن الله على كل شيء قدير } ، واشتغلوا بما كلفكم به من أداء حقوق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، كإتقان الصلاة وأداة الزكاة، واعلموا أن الله لا يضيع من أعمالكم شيئاً، فما تقدموا لأنفسكم ليوم فقركم تجدوه عند الله وأعظم أجراً، إن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم. نزلت الآية في عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أتيا بيت المِدْرَاس، فألانوا لهم الكلام، فطمعوا في صرفهما عن دينهما، ففضحهم الله ورد كيدهم في نحرهم، والله تعالى أعلم. الإشارة: من جملة مَا دَبَّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم: التعصب والحمية على طريق أشياخهم، ولو ظهر الحق عند غيرهم، وخصوصاً أولاد الصالحين منهم، فإذا رأوا أحداً ظهرت عليه أنوار الولاية، وأسرار الخصوصية، تمنَّوْا أن يردوهم عن طريق الحق، ويصرفوهم إلى مخالطة الخلق، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فيقال لمن توجه إلى الحق: فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم. قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم. ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه. وبالله التوفيق.