الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } * { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً }

قلت: { ويزيد }: عطف على { فليَمدُد } لأنه في معنى الخبر، أي: من كان في الضلالة يمده الله فيها، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم، أو عطف على { فسيعلمون } ، وجمع الضمير في { رَأَوا } وما بعدها باعتبار معنى { مَنْ } ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها. يقول الحقّ جلّ جلاله: { قُلْ } يا محمد { مَنْ كان } مستقرًا { في الضلالة } مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور، مشتغلاً بالحظوظ الفانية، { فليَمْدُدْ له الرحمنُ مَدَّا } أي: يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ، إما استدراجًا، كما نطق به قوله تعالى:إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [آل عِمرَان: 178]، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى:أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّر } [فاطر: 37]، أو: { فليمدد له }: يدعه في ضلاله، ويمهله في كفره وطغيانه، كقوله تعالى:وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]. والتعرّض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك. وكأنه جلّ جلاله لما بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم، كما بيَّن ذلك بقوله: { حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون } ، فهو غاية للحد الممتد، أي: نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون { إِمَّا العذاب } الدنيوي بالقتل، والأسر، وغلبة أهل الإيمان عليهم، { وإِمَّا الساعةَ } ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان، و " إما " هنا: لمنع الخُلو، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال. { فسيعلمون } حينئذ { مَن هو شرٌّ مكانًا } من الفريقين، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون، فيعلمون أنهم شر مكانًا، لا خير مقامًا، { و } يعلمون أنهم { أضعفُ جندًا } أي: جماعة وأنصارًا، لا أحسن نَدِيًّا، كما كانوا يدعونه، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا، يفتخرون في الأندية والمحافل، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل، ليس تحته طائل. ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال: { ويزيدُ اللهُ الذينَ اهتدوا هُدَىً } أي: كما يمد لأهل الضلالة زيادة في ضلالهم، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ثوابًا على طاعتهم لأن كلا يجزى بوصفه، فلا تزال الهداية تنمو في قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور، ورؤية الحليم الغفور.

السابقالتالي
2