الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } * { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً }

قلت: { وكُلاًّ }: مفعول أول لجعلنا، و { عَلِيًّا }: حال من اللسان. يقول الحقّ جلّ جلاله: { فلما اعتزلهم } أي: اعتزل إبراهيمُ قومَه { وما يعبدون من دون الله } بأن خرج من " كوثى " بأرض العراق، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها، { وهبنا له إسحاق } ولده { ويعقوبَ } حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وُهبت لزوجه سارة، ثم وهبتها له، فوُلد له منها إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصهما بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه، فكانت النعمة بهما أعظم. ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ها هنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، فإنهما شجرة الأنبياء، لهما أولاد وأحفاد، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير. { وكُلاًّ جعلنا نبيًّا } أي: وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً. { ووهبنا لهم من رحمتنا } هي النبوة، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل: الرحمة: المال والأولاد، وما بسط لهم من سعة الرزق، وقيل: إنزال الكتاب، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. { وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا }: رفيعًا في أهل الأديان، فكل أهل دين يتلونهم، ويثنُون عليهم، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله:وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [الشُّعَرَاء: 84]. والمراد باللسان: ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتبدل الدول، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم. الإشارة: كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية، وفي الحكم: " ما نفع القلب شيءٌ مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". قال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة: الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة: كشف الغِطاء، وتنزل الرحمة، وتحقق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة، قال الله تعالى: { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له } الآية. وقال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا، فهلك كما هلكوا. وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله: كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي، قال: لا تسمع كلامهم، فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال: لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم، لا بد لي من معاملتهم، قال: لا تسكن إليهم، فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون، قال: يا هذا أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات.

السابقالتالي
2