قلت: { إذ قال }: بدل اشتمال من { إبراهيم } ، وما بينهما: اعتراض، أو متعلق بكان. يقول الحقّ جلّ جلاله: { واذكر في الكتاب } القرآن أو السورة، { إِبراهيم } أي: اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم، كقوله:{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [الشعراء: 69] لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. { إِنه كان صدّيقًا } ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، فالصدِّيق مبالغة في الصدق، يقال: كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه، وعمل بما صدق به فهو صدّيق، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية، إن شاء الله. والجملة: استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا { نبيًّا } ، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة. { إِذْ قال لأبيه } آزر، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له: { يا أبتِ } ، التاء بدل من ياء الإضافة، أي: يا أبي، { لِمَ تعبدُ ما لا يسمع } ثناءك عليه حين تعبده، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه، { ولا يُبْصِرُ } خضوعك وخشوعك بين يديه، أو: لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا، { ولا يُغْنِي عنك شيئًا } أي: لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر. انظر لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه بأبدع احتجاج، بحسن أدب، وخلق جميل، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد، أي: فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام، الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر، لكنه ممكن، لاستنكف العقل السليم عن عبادته، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر. ثم دعاء إلى اتباعه لأنه على المنهاج القويم، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة، حيث قال: { يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ } ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق، وإن كان في أعلاه، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق، حيث قال: { فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا } أي: مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب.