الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

قلت: { إذ انتبذت }: بدل اشتمال من مريم، على أن المراد بها نبؤها، فإن الظرف مشتمل على ما فيها، وقيل: بدل الكل، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل: " إذ " ظرف لنبأ المقدر، أي: اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و { مكانًا }: مفعول بانتبذت، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان، أي: اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا، أو ظرف له، أي: اعتزلت في مكان شرقي. و { بَشرًا }: حال. وجواب { إن كنت }: محذوف، أي: إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و { بَغِيًّا } أصله: بغوي، على وزن فعول، فأدغمت الواو - بعد قلبها ياء - في الياء، وكسرت الغين للياء، و { لنجعله }: متعلق بمحذوف، أي: ولنجعله آية فعلنا ذلك، أو معطوف على محذوف، أي: لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله... الخ. أو على جملة: { هو عليّ هين } لأنها في معنى العلة، أي: كذلك قال ربك لقدرتنا على ذلك ولنجعله... الخ. يقول الحقّ جلّ جلاله: { واذكرْ } يا محمد { في الكتابِ }: القرآن، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك. أي: اذكر في الكتاب نبأ { مريم إِذ انتبذتْ } حين اعتزلت { من أهلها } وأتت { مكانًا شرقيًا } من بيت المقدس، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل: قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض، محتجبة بشيء يسترها، وذلك قوله تعالى: { فاتخذتْ من دونهم حجابًا } ، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض، متحجبةً دونهم، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي، شاب أمرد، وضيء الوجه. قال تعالى: { فأرسلنا إِليها رُوحنا }: جبريل عليه السلام، عبَّر عنه بذلك توفية للمقام حقه. وقرئ بفتح الراء لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد، يعني اتباعه والاهتداء به، الذي هو عدة المقربين في قوله:فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [الواقِعَة: 88، 89]. { فتمثَّل لها بشرًا سويًّا }: سَويّ الخَلق، كامل البنية، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ لها، اسمه يوسف، مِنْ خدَم بيت المقدس، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته. وأما ما قيل من أن ذلك لتَهيج شهوتُها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها، فغلط فاحش، ينحو إلى مذهب الفلاسفة، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم، يُكذبه قوله تعالى: { قالت إِني أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا } ، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة.

السابقالتالي
2