الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } * { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } * { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } * { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } * { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }

قلت: { ذكر }: خبر عن مضمر، أي: هذا ذكر، والإشارة للمتلو في هذه السورة لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد. وقيل: مبتدأ حُذف خبره، أي: فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل: خبر عن { كهيعص } ، إذا قلنا هي اسم للسورة، أي: المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك، و { عبده }: مفعول لرحمة ربك، على أنها مفعول لما أضيف إليها، أو لذكر، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها إليه، و { زكريا }: بدل منه، أو عطف بيان، و { إذ نادى }: ظرف لرحمة، وقيل: لذكْر، على أنه مضاف إلى فاعله، وقيل: بدل اشتمال من زكريا، كما في قوله:وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ.... } [مريَم: 16]، و { مِنّي }: حال من العَظْم، أي: كائنًا مني، و { شيئًا }: تمييز. يقول الحقّ جلّ جلاله: هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } >. قال الثعلبي: [فيه تقديم وتأخير]. أي: ذكر ربك عبده زكريا برحمته، { إِذْ نادى ربه } وهو في محرابه في طلب الولد { نداءً خفيًّا }: سرًا من قومه، أو في جوف الليل، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم. { قال } في دعائه: { ربِّ إِني وَهَنَ العظمُ مني } أي: ضعف بدني وذهبت قوتي. وإسناد الوهن إلى العَظْم لأنه عماد البدن ودعامة الجسد، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده. ووهن بدنه عليه السلام: لكبر سنه، قيل: كان ابن سبعين، أو خمسًا وسبعين، وقيل: مائة، وقيل: أكثر. { واشتعل الرأسُ شيبًا } أي: ابيضَّ شَمَطًا. شبه عليه السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار، وانتشاره في الشعر وفُشوِّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرجه مخرج التمييز، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى، حيث كان الأصل: واشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة شموله لكلها، فإن وِزَانَهُ: اشتعل بيته نارًا بالنسبة إلى اشتعلت النار في بيته، ولزيادة تقريره بالإجمال أولاً، والتفصيل ثانيًا، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير. ثم قال: { ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا } أي: لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، لعله يشفع له ذلك بمثله، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال.

السابقالتالي
2 3