الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } * { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } * { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } * { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }

قلت: { هذا } ، الإشارة إما إلى نفس الفراق، كقولك: هذا أخوك، أو إلى الوقت الحاضر، أي: هذا وقت الفراق. أو إلى السؤال الثالث. و { بيني }: ظرف مضاف إليه المصدر مجازًا، وقرئ بالنصب، على الأصل، و { غَصْبًا }: مصدر نوعي ليأخذ. يقول الحقّ جلّ جلاله: { قال } الخضر عليه السلام: { هذا فراقُ بيني وبينك } فلا تصحبني بعد هذا، { سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا } أي: سأخبرك بالخبر الباطن، فيما لم تستطع عليه صبرًا لكونه منكرًا في الظاهر، فالتأويل: رجوع الشيء إلى مآله، والمراد هنا: المآل والعاقبة، وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته، ولم يقل: " بتأويل ما رأيت " نوعُ تعريضٍ به، وعناية عليه السلام. ثم جعل يفسر له، فقال: { أما السفينة } التي خرقتُها، { فكانت لمساكين }: ضُعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، فسماهم مساكين لذلهم وضعفهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وأمتْنِي مِسْكِينًا، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ " فلم يُرد مسكنة الفقر، وإنما أراد التواضع والخضوع، أي: احشرني مخبتًا متواضعًا، غير جبار ولا متكبر، وقيل: كانت السفينة لعشرة إخوة: خمسة زَمْنَى، وخمسة { يعملون في البحر }. وإسناد العمل إلى الكل، حينئذ، بطريق التغليب، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. { فأردت أن أعيبها }: أجعلها ذات عيب، { وكان ورائهم ملكٌ } أي: أمامهم، وقرئ به، أو خلفهم، وكان رجوعهم عليه لا محالة، وكان اسمه: " جلندي بن كركر " وقيل: " هُدَدُ بن بُدَد " ، قال ابن عطية: وهذا كله غير ثابت، يعني: تسمية الملك. { يأخذُ كلَّ سفينة } صالحة، وقرئ به، { غَصْبًا } من أصحابها. وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب، فيقول: فكانت لمساكين، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة، فأردت أن أعيبها لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب، وإنما قدّم للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجة إلى التأويل، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي: ومبني ذلك - أي: التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. هـ. { وأما الغلامُ } الذي قتلتُه { فكان أبواه مؤمنين } وقد طُبع هو كافرًا، وإنما لم يصرح بكفره لعدم الحاجة إليه لظهوره من قوله: { فخشينا أن يُرهقهما }: فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ { طغيانًا } عليهما { وكفرًا } بنعمتهما لعقوقه وسوء صنيعه، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا.

السابقالتالي
2 3 4