الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } * { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } * { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }

قلت: { ويوم }: معمول لمحذوف، أي: واذكر، أو عطف على قوله: " عند ربك " ، أي: والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و { حشرناهم }: عطف على { نُسيّر } للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه، منفيًا وموجبًا، وقيل: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. و { نغادر }: نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه: الغدير لما يتركه السيل في الأرض من الماء، و { صفًّا }: حال، أي: مصْطفين. يقول الحقّ جلّ جلاله: { و } اذكر { يوم نُسيِّرُ الجبالَ } أي: حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى:وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88] أو: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره: تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ: " تُسَيَّر " بالبناء للمفعول جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لظهور تعينه، ثم قال: { وترى الأرضَ } أي: جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، { بارزةً }: ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكونفَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [طه: 106، 107]. { وحشرناهم }: جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، { فلم نُغادرْ } أي: لم نترك { منهم أحدًا }. { وعُرِضُوا على ربك } ، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى. قاله أبو السعود. { صَفًّا } أي: مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح: " يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ... " الحديث بطوله. وفي حديث آخر: " أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا ". يقال لهم - أي: للكفرة منهم: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة } ، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو: حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث. وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله: { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا } أي: زعمتم في الدنيا أنه، أي: الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه.

السابقالتالي
2