الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } * { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }

قلت: { كماءٍ }: خبر عن مضمر، أي: هي كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ، على أنه بمعنى " صيِّر ". يقول الحقّ جلّ جلاله: { واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا } أي: واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها، وسرعة انقراضها وفنائها لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة، هي { كماءٍ أنزلناه من السماء } وهو المطر، { فاختلط به } أي: بسببه { نباتُ الأرض } بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا من كثرته وتكاثفه، ثم مرت مدة قليلة { فأصبح هشيمًا } أي: مهشومًا مكسورًا، { تذروه الرياحُ } أي: تُفرقه وتطيره، كأن لم يَغْنَ بالأمس، { وكان الله على كل شيء مقتدرًا }: قادرًا، ومن جملة الأشياء: الإفناء والإنشاء. { المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا } أي: مما تذروه رياح الأقدار، ويلحقه الفناء والبوار، ويدخل في الزينة: الجاهُ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ فإنه يفنى ويبيد، ثم ذكر ما لا يفنى فقال: { والباقياتُ الصالحاتُ } وهي أعمال الخير بأسرها، أو: الصلوات الخمس، أو: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " ، زاد بعضهم: " ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". قال عليه الصلاة والسلام: " هي من كنز الجنة، وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ". أو: الهمات العالية والنيات الصالحة إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو: كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً: لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية. قال في الإحياء: كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية لبقائهما كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. هـ. وهي، أي: الباقيات الصالحات { خيرٌ عند ربك } أي: في الآخرة { ثوابًا } أي: عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى:مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96]. وقوله: { عند ربك }: بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى: { وخيرٌ أملاً } أي: ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير " خير " للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.

السابقالتالي
2