الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }

قلت: { الحق }: خبر، أي: هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقل }: يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم، أو: لمن جاءك من الناس: هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو { الحقُّ من ربكم } أي: من جهة ربكم، لا من جهتي، حتى يتصور فيه التبديل، أو يمكن التردد في اتباعه. { فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفرْ } ، وهو تهديد، أي: فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل، ومن شاء أن يكفر فليفعل، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم. ثم أوعدهم على الكفر، فقال: { إِنا أعْتَدْنا للظالمين } أي: هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد، ووضعٌ للشيء في غير محله، أي: هيأنا لهم { نارًا } عظيمة { أحاط بهم } أي: محيطُ بهم { سُرادِقُها } أي: سورها المحيط بها، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه، والسرادق: ما يحيط بالشيء، كالجدار ونحوه. قيل: هو حائط من نار، وقيل: دخانها. { وإِن يستغيثوا } من العطش { يُغَاثوا بماء كالمهل }: كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل: كرديء الزيت في اللون، { يشوي الوجوه } إذا قُدم ليشرب بحرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه " { بئسَ الشرابُ } ذلك، { وساءت } النار { مُرتفقًا }: مُتَّكًا، وأصل الارتفاق: نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه، وأنى ذلك في النار، وإنما هو بمقابلة قوله في المؤمنين: { وحسنت مرتفقًا }. الإشارة: ينبغي للواعظ، أو المُذكر، أو العالم، ألا يحرص على الناس، بل يستغني بالله في أموره كلها، وإنما يُبين الحق من الباطل، ويقول: هذا الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس، وأما إن كان لخاصتهم كأهل الرئاسة والجاه، فاختلف فيه فقال بعضهم: يسلك هذا المنهاج يُبين الحق ولا يبالي، محتجًا بالآية، قال: نحن أمة محمدية، قال تعالى له: { وقل الحق من ربكم... } الآية، وقال بعضهم: ينبغي أن يلين لهم القول لقوله تعالى:فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44]، وهو الأليق بطريق السياسة، فمن أعرض عن الوعظ، وبقي على ظلمه، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم. ثم ذكر ضدهم فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ... }