الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { ويسألونك عن الروح } أي: عن حقيقة الروح، الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة، فقال: { قل الروح من أمر ربي } ، أظهر في مقام الإضمار إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر. { وما أُوتيتم من العلم إِلا قليلاً } لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار. رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب، قال عليه الصلاة والسلام: " بل نحن وأنتم ". فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول:وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البَقَرَة: 269]، وتارة تقول هذا، فنزلت:قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109] الآية.وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ... } [لقمان: 27] الآية. وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما نيط به المعاش والمعاد، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه، قليل ينال به خير: كثير في نفسه. وقال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد، وإنما الروح من الله؟. هـ. قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري: أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ " الروح " يدخل تحت قوله: { قل الروح من أمر ربي } ، ثم قال: وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، ضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. هـ. وقيل: المراد بالروح خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل جبريل عليه السلام، وقيل: القرآن. ومعنى { من أمر ربي } من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده. الإشارة: قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه.

السابقالتالي
2 3