الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } * { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقل } يا محمد: { ربِّ أَدْخلني } في الأمور كلها { مُدْخلَ صدقٍ } بأن أدخل فيها بك لا بنفسي، { وأَخرجني } منها { مُخرجَ صدقٍ } كذلك، مصحوبًا بالفهم عنك، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل: أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، أي: إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث، المقرون بالإقامة للمقام المحمود، التي لا كرامة فوقها. وقيل: المراد: إدخال المدينة، والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله - عليه الصلاة والسلام - مكة ظاهرًا عليها، وإخراجه منها آمنًا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار، وإخراجه منه سالمًا. وقيل: إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل: إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه. { واجعل لي من لدنك } أي: من مستبْطَن أمورك، { سُلطانًا نصيرًا } أي حجة ظاهرة، تنصرني على من يخالفني ويعاديني، أو: عزًا ناصرًا للإسلام، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته - عليه الصلاة والسلام - بقوله:فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [المائدة: 56]،لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [التّوبَة: 33]،وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ... } [النُّور: 55] الآية، وبقوله:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصَّافات: 171، 172] الآية. وذلك حين يظهر الحق، ويزهق الباطل، كما قال: { وقل جاء الحق } أي: الإسلام أو الوحي، { وزهق الباطلُ } ذهب، وهلك الكفر والشرك، وتسويلات الشيطان { إِنَّ الباطلَ } كائنًا ما { كان زهوقًا } أي: شأنه أن يكون مضمحلاً غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح، وحَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائةٍ وَسِتُّون صَنَمًا، فَجَعَل يَطْعَنُ بمخْصَرةٍ كانت بيَده في عين كُل واحد، ويقول: " جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ " ، فَيَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ، حَتَّى أَلْقَى جمِيعها، وَبَقِيَ صَنَمُ خُزَاعَة فوْقَ الكَعْبَةِ، وكَانَ من صُفْرٍ، فقال: " يا عَلِيُّ، ارْمِ بِهِ " فصعَدَ إليه، ورَمَى به، فَكَسَرَهُ. هـ. الإشارة: إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس، وصارت معشش قلوبهم كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة، بل دخلوا في ذلك بالله ولله، ومن الله وإلى الله، كما في الحكم. ثم قال: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني، وانقيادي إليك إذا أخرجتني. { واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا } ينصرني ولا ينصر عليّ، ينصرني على شهود نفسي، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها، ويفنيني عن دائرة حسي، حتى تتسع عليّ دائرة المعاني عندي، وأفضي إلى فضاء الشهود والعيان، فحينئذ يَزهق الباطل، وهو ما سوى الله، ويجيء الحق، وهو وجود الحق وحده، فأقول حينئذ: { وقل جاء الحق وزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقًا } ، وإنما أثبته الوهم والجهل، وإلا فلا ثبوت له ابتداء وانتهاء. وثبوت الوهم والجهل في القلب مرض من الأمراض وشفاؤه في التمسك بما جاء به القرآن العظيم