الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولقد كرَّمنا بني آدم } قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله لأنه يطأ بها القاذورات فسقطت حرمتها. { وحملناهم } أي: بني آدم، { في البر والبحر } على الدواب والسفن فيمشون محمولين في البر والبحر. يقال: حملته حملاً: إذا جعلت له ما يركب. { ورزقناهم من الطيبات } من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، { وفضلناهم } بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم { على كثير ممن خلقنا } وهم: من عدا الملائكة - عليهم السلام -. { تفضيلاً } عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة - كالمقربين مثلاً - أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم. الإشارة: قد كرَّم الله هذا الآدمي، وشرفه على خلقه بخصائص جعلها فيه، منها: أنه جعله نسخة من الوجود، فيه ما في الوجود، وزيادة، قد انطوت فيه العوالم بأسرها، من عرشها إلى فرشها، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، في مباحثه، حيث قال:
يا سابقًا في مَوْكب الإِبْداع ولاحِقًا في جَيْش الاخْتِراع اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود لله ما أعلاَك مِن مَوْجُود أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ والعالم العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ   
وقال آخر:
إذا كنتَ كُرْسِيًّا وعَرْشًـا وَجنـَّـةً وَنارًا وأَفْلاَكًا تدَوُر وأَمْلاَكا وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا مُقِيمًا معَ الأسْرَى أمَا آن إِسْرَاكَا   
ومنها: أنه جعله خليفة في ملكه، وجعل الوجود بأسره خادمًا له، ومنتفعًا به، الأرض تُقله، والسماء تُظله، والجهات تكتنفه، والحيوانات تخدمه، والملائكة تستغفر له، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق. قال تعالى:وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13]. ومنها: أن جعل ذاته مشتملة على الضدين: النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك.

السابقالتالي
2