الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } * { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

قلت: { أن اتخذي }: مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل، أو مصدرية، أي: بأن اتخذي. و { من }: للتبعيض في الثلاثة مواضع، { ثم كُلِي }: عطف على { اتخذي }. و { من }: للتبعيض لأنها لا تأكل من جميع الشجر، وقيل: من كل الثمرات التي تشتهيها، فتكون للبيان. و { ذُللاً }: حال من السبل، أو من الضمير في { اسلكي }. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وأوْحَى ربك إلى النحل } أي: ألهمها، وقذف في قلوبها ذلك. والوحي على ثلاثة أقسام: وحْيُ إلهام، ووحيُ منام ووحْيُ أحكام. وقال الراغب: أصل الوحي: الإشارة السريعة، إما بالكلام رمزًا، وإما بصوت مجرد عن التركيب، أو بإشارة ببعض الجوارح، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء: وحي، وذلك أضْرُبٌ إما برسول مشاهَد، وإما بسماع كلام من غير معاينة، كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاءٍ في الروع، وإما بإلهام، نحو:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [القَصَص: 7]، وإما تسخير، كقوله: { وأوحى ربك إلى النحل } ، أو بمنام، كقوله صلى الله عليه وسلم: " انقطع الوحي، وبقي المبشرات رؤيا المؤمن " ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال: { أنِ اتخذي } ، أو بأن اتخذي { من الجبال بيوتًا } تأوين إليها، كالكهوف ونحوها، { ومن الشجر } بيوتًا، كالأجْبَاح ونحوها، { ومما يَعرِشُون } أي: يهيئون، أو يبنون لك الناس من الأماكن، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض لأنها لا تُبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش من كرْم أو سقف، ولا في كل مكان منها. وإنما سمي ما تبنيه، لتتعسل فيه، بيتًا تشبيهًا ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره: للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت: وليس للنحل فعل في الحقيقة، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل. ثم قال لها: { ثم كُلِي من كل الثمرات } التي تشتهيها، حلوها ومرها. قيل: إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة. { فاسْلُكي } أي: ادخلي { سُبل ربك } طُرقه في طلب المرعى، أو: فاسلكي راجعة إلى بيوتك، سبلَ ربك، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه لأنها خلقه وملْكه. { ذُللاً }: مطيعة منقادة لما يراد منك، أو اسلكي طرقَه مذللة مسخرة لكِ، فلا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت. قال مجاهد: لم يتوعَّر على النحل قط طريق. { يخرجُ من بطونها شرابٌ } وهو العسل، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس: لأنه محل الإنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم. وسماه شرابًا لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل، وهو ظاهر كلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا، قال: أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة - أو قيء نحلة-، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال.

السابقالتالي
2