الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }

قلت: { قرية }: بدل من: { مثلاً }. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وضرب اللهُ مثلاً } ، ثم فسره بقوله: { قريةً }: مكة، وقيل: غيرها. { كانت آمنة } من الغارات، لا تُهَاجُ، { مطمئنة } لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، { يأتيها رزقها }: أقواتها { رغدًا }: واسعًا { من كل مكان } من نواحيها، { فكفرتُ بأنعُم الله } بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، { فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف } ، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره يقول الشاعر:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ   
فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، والمعنى: أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب. { ولقد جاءهم رسولٌ منهم } ، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم. { فكذَّبوه فأخذهم العذاب }: الجوع والقحط، ووقعة بدر، { وهم ظالمون } ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم. الإشارة: ضرب الله مثلاً قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق. ثم أمر بالشكر الذي هو قيد النعم