الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }

يقول الحق جل جلاله: وقال الذين كفروا لرسلهم: { إنْ أنتم إلا بشرٌ مثلُنا } لا فضل لكم علينا، فَلِمَ تختصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث رسلاً إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل، كالملائكة، أو: ما أنتم إلا بشر، والبشر لا يكون رسولاً. قال ابن جزي: يحتمل أن يكون استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة، أو يكون إحالة لنبوة البشر، والأول أظهر لطلبهم البرهان بقولهم: { فأتونا بسلطان مبينٍ } ، ولقول الرسل: { ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده }. هـ. ثم قالوا للرسل: { تُريدون أن تَصدُّونَا عما كان يعبدُ آباؤُنا } من الأصنام بهذه الدعوى، { فأتونا بسلطانٍ مبين }: ببرهان بيِّن يدل على فضلكم، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هي مرتبة النبوة، كأنهم لم يعتبروا ما جاؤوا به من البينات والحجج، فاقترحوا عليهم آية أخرى، تعنتاً ولجاجاً. { قالت لهم رُسُلهم إن نحن }: ما نحن { إلا بشر مثلُكم ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده } بالنبوة والرسالة، فمَنَّ علينا بذلك، وإن كنا بشراً مثلكم، سلّموا لهم مشاركتهم في الجنس، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومَنَّهُ عليهم. وفيه دليل على ان النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوا عما اقترحوا بقولهم: { وما كان لنا أن نأتيَكم بسلطانٍ إلا بإذنِ الله } ، فليس لنا الإتيان بآيات، ولا في قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله، يخص من يشاء بها، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته. { وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون } ، فلنتوكل نحن عليه، في الصبر على معاناتكم ومعاداتكم. عمموا الأمر بذكر المؤمنين للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً، ألا ترى قولهم: { وما لنا ألا نتوكل على الله } أي: أيُّ عذر لنا في ترك التوكل على الله؟ { وقد هَدَانَا سُبُلنا } أي: طرقنا التي نعرفه بها، فنوحده، ونعلم أن الأمور كلها بيده، { ولَنصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا }: على أذاكم حتى يحكم الله بيننا، وهو جواب عن قسم محذوف، أكدوا به توكلهم، وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } أي: فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري. قال ابن جزي: إن قيل: لِمَ كرر الأمر بالتوكل؟ فالجواب عندي: أن قوله: { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار: { فأتونا بسلطان مبين } أي: حجة ظاهرة، فتوكل الرسل في ورود ذلك إلى الله. وأما قوله: { فليتوكل المتوكلون } فهو راجع إلى قولهم: ولنصْبرنَّ على ما آذيتمونا أي: نتوكل على الله في دفع أذاكم. هـ. وهو حسن، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضي أن التوكل حاصل، والمطلوب الدوام عليه، وقد يقال: إنما عبَّر ثانياً بلفظ المتوكلين كراهية إعادة اللفظ بعينه، أي: من كان متوكلاً على الله فإنه الحقيق بذلك.

السابقالتالي
2