الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } * { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ }

قلت: أفمن مع صلته: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره. أو كمن ليس كذلك؟!. يقول الحق جل جلاله: { أفَمَنْ هو قائمٌ على كل نَفْس } أي: حفيظ رقيب على عمل كل نفس { بما كسبتْ } من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم أحق أن يُعبد أم غيره؟ أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع، ولا يعقل!!. { وجعلوا لله شركاءَ } بعد هذا البيان التام، { قل } لهم: { سَمُّوهُم } أي: اذكروا أسماءهم، فلا تجدون إلا أسماء إناث كاللات والعزى ومناة، أو أسماء أحجار وخشب فبأي وجه تستحق أن تعبد، وتشرك مع الله في ألوهيته؟. { أم تُنبِئُونه بما لا يعلمُ في الأرضِ } بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض، وهذا تهكم بهم، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة، ولم يعلمها الحق تعالى، وهو محال. والمعنى: أن الله لا يعلم لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم؟ { أم } تسمونهم شركاء، { بظاهرٍ من القولِ } ، من غير حقيقة واعتبار معنى، كتسمية الخبث مسكاً، والبول عطراً. { بل زُيِّن للذين كفروا مكرُهُم } أي: انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله، { وصدُّوا عن السبيل } أي: وصدوا الناس عن طريق الحق، حيث منعوهم من الإسلام، ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه: صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. { ومن يُضلل اللَّهُ فما له من هَادٍ } أي: من يخذله الله فليس له من يوقفه غيره. { لهم عذابٌ في الحياة الدنيا } بالقتل والأسر، وسائر ما يصيبهم من المصائب، { ولعذابُ الآخرة أشقُ } لشدته ودوامه، { وما لهم من الله } اي: من عذابه { من واقٍ } يقيهم ويعصمهم منه. الإشارة: كل من تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه، يقول الله تعالى في بعض الأخبار: " إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟ " وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها، أو طمع في الخلق وركن إليهم، فقد جعل لله شركاء، فيقال له: سَمِّ هؤلاء تجدهم حقاً عاجزين، لا قدرة لهم على شيء، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل. بل زين لضعفاء اليقين مكرهم، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب، أي: كفروا كفراً دون كفر بأن شكّوا في الرزق والشكُّ في الرزق شكٌ في الرزَّاق، وصدوا عن طريق اليقين، الغنى برب العالمين، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان. قال بعض العارفين: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ لقال: الذل والهوان، ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان. وفي الحِكَم: " ما بَسَقَتْ أغصانُ ذُلٍّ إلا عَلَى بَذْرِ طَمعٍ ". وقال الشاعر:
العَبدُ حُرٌّ مَا قَنَع والحرُّ عَبدٌ ما طَمعْ   
ولعذاب الآخرة أشق حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام، وما لهم من الله من واق يقيهم من غم الحجاب، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. والله تعالى أعلم. ثمَّ وصف الجنة تشويقاً وترغيباً في سلوك طريقها وهو الإيمان