الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

قلت: رواسي: جمع راسية، من رسى الشيء: ثبت، وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان مَنْ خَفَضَ عطف على أعناب، ومن رفع عطف على جنات، وصنوان نعت تابع، وغير: عطف عليه. يقول الحق جل جلاله: { وهو الذي مدَّ الأرض } بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام، { وجعلَ فيها رواسي }: جبالاً ثوابت لتستقر وتثبت، فلا تميد كالسفينة، { و } جعل فيها { أنهاراً } مطرده دائمة الجري، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال لأنها أسبابٌ لتولدها في العادة. { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } أي: وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات فكل ثمرة فيها صنفان أحمر وأسود، أو حلو وحامض، قال ابن جزي: فإن قيل: تقتضي الآية أنهخ تعالى خلق من كل ثمرة صنفين. وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافاً كثيرة؟ فالجواب: أن ذلك زيادة في الاعتبار، وأعظم في الدلالة على القدرة بذكر الاثنين لأن دلالة غيرهما من باب أولى. هـ. { يُغشى الليلَ النهارَ } ، أي: يجعل الليلَ غشاءً على النهار ولباساً له، فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً. { إنَّ في ذلك لآياتٍ } دلائل وجوده وباهر قدرته { لقوم يتفكرون } فيها فإن وجودها وتخصيصها في هذا الشكل العجيب، دليل على وجود صانع حكيم، دبر أمرها، وهيأ أسبابها. { وفي الأرض قِطَعٌ متجاوراتٌ } قريب بعضها من بعض، مع اختلاف أوصافها، بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، وبعضها معادن مختلفة. ولولا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال، على وجهٍ دون وجه، لم يكن الحكم كذلك لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث إنها متضامة متشاركة في السبب والأوضاع. قاله البيضاوي: { وجناتٌ من أعناب وزرعٌ ونخيلٌ } أي: وفي الأرض أيضاً بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع والنخيل، من صفة تلك النخيل: { صِنْوَانٌ } أي: نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد، { وغير صِنْوَانٌ } أي: غير متفرعة بل كلنخله منفردة باصل واحد { يُسقى بماءٍ واحد ونُفَضِّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل } أي: في الثمر المأكول قدراً وشكلاً، وطعماً، ورائحةً ولوناً، مع اتفاق الماء الذي تُسقى به. وذلك مما يدل أيضاً على الصانع القادر الحكيم فإن إيجادها، مع اختلاف الأصول والأسباب، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. { إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون }: يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار، فيُدركون عظمة الواحد القهار. الإشارة: ذَكَرَ أولاً سماء الأرواح، وما يُناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وذكر هنا أرض النفوس، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم، فقال: وهو الذي مد أرض النفوس، وجعل فيها جبالاً من العقول الشامخة، حتى أدركت الصانع، وتحققت بوجوده ووحدانيته، بالدلائل الواضحة، والبراهين القطعية، وأنبع منها أنهاراً من العلوم الرسمية والرقائق الوعظية.

السابقالتالي
2