الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } * { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ } * { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } * { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } * { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }

قلت: أولئك.. الخ: جملة خبر الموصولات، إن رفعت بالابتداء، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب: فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. وجنات: بدل من عُقبى الدار. ومن صلُح: عطف على الواو بفصل المفعول، وسلام عليكم: محكي بحال محذوفة، أي: قائلين سلام عليكم، وحذْفُ الحال ـ إذا كان قولاً ـ كثيرٌ مطرد. يقول الحق جل جلاله: { أفمن يعلم انما أنزِلَ إليك من ربك } هو { الحقُّ } فيستجيب له، وينقاد له { كَمَنْ هو أعمى } عمى القلب، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق ـ جل جلاله ـ على من اشتبه عليه الحق من الباطل، بعدما ضرب المثل، فإن الأمور المعنوية، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلاَّ على الخفاشة، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال: { إنما يتذكر أولو الألباب } ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات. ثم وصفهم بقوله: { الذين يُوفون بعهد الله } ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية، حين قالوا: { بلى }. { ولا ينقُضُون الميثاق } ما أوثقوه على نفوسهم، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص تأكيداً على الوفاء بالعهود. { والذين يَصِلُونَ ما أمر الله به أن يُوصَلَ } من الرحم، وموالاة المؤمنين، وحُضور مجالس الصالحين، والعلماء العاملين، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. { ويَخْشَون ربهم }: غضبه، وعذابه، أو إبعاده وطرده، { ويخافون سوءَ الحساب }: مناقشته، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا. { والذين صَبرُوا } على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك { ابتِغَاءَ وَجهِ ربهم } طلباً لرضاه، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته، لا فخراً ورياء، وطلباً لحظ نفساني. { وأقاموا الصلاة } المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، { وأنفقوا مما رزقناهم } من الأموال فرضاً ونفلاً، { سِراً وعلانيةً } إن تحقق الإخلاص، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال، وجهراً لمن يعرف به لئلا يُتهم، أو ليُقتدى به. { ويدرءُونَ بالحسنةِ السيئَةِ } أي: يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالاً لقوله تعالى:ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } [المؤمنون " 96]، أو: يدفعون الشرك بقول: " لا إله إلا الله " ، أو يفعلون الحسنات فيدرؤون بها السيئات، كقولهإِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]. قيل: نزلت في الأنصار. وهي عامة. ثم ذكر جزاءهم، فقال: { أولئك لهم عُقْبَى الدَّارِ } أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي: الجنة التي فسَّرها بقوله: { جناتُ عَدنٍ } أي: إقامة، { يدخُلونها } مخلدين فيها. والعدْن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة، أي: مداخلها لا ربضُها، فيدخلونها { ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي: يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم، وإن لم يبلغوا في العمل مبلغهم، بتعاً لهم وتعظمياً لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم.

السابقالتالي
2