الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } * { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } * { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

قلت: ليسجننه: مفسر للفاعل، أي: ظهر له سجنه إذ الجملة لا تكون فاعلاً على المشهور، وجوزه بعضهم مستدلاً بالآية. وقيل: محذوف، أي: بدا لهم رأي ليسجننه. وقال الإمام القصار، الفاعل هو القسم المفهوم من اللام الموطئة له، أي: بدا لهم قسمهم ليسجننه. يقول الحق جل جلاله: { ثم بَدَا لهم } أي: ظهر للعزيز وأهله، { من بعد ما رأوا الآيات } الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي، وقَدّ القميص، وقطع الأيدي، واستعصامه منهن، فظهر لهم سجنه. وأقسموا { ليَسجُننَّهُ حتى حين } حتى يظهر ما يكون منه ليظن الناس أنها مُحِقة فيما ادعت عليه. فخدعت زوجها حتى وافقها على سجنه. ورُوي أنه لما أدخل السجن ندَمت زليخاً على سجنه، وعيل صبرها على فراقه، فأرسلت إلى السجان ليطلقه، فأبى، فلبث فيه سبع سنين. { ودخلَ معه السجنَ فتيان } أي: فسجنوه واتفق أنه دخل معه في ذلك اليوم رجلان آخران، من عبيد الملك: ساقيه وخبازه، اتُهِمَا أنهما أرادا أن يَسُمَّاه، { قال أحدهما } وهو الساقي: { إني أراني } في المنام { أعصِرُ خمراً } أي: عنباً. وسماه خمراً: باعتبار ما يؤول إليه. رُوي أنه قال: رأيت كأن الملك دعاني وردني إلى قصره، فبينما أنا أدور في القصر، وإذا بثلاثة عناقيد من العنب، فعصرتها، وحملت ذلك إلى الملك لأسقيه له. { وقال الآخرُ } وهو الخباز: { إني أراني أحمل فوق راسي خبزاً تاكلُ }: تنهش { الطيرُ منه } ، قال: رأيت كأن العزيز دعاني، وأخرجني من السجن، ودفع لي طيفورة عليها خبز، فوضعتها على رأسي، والطير تأكل منه. { نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك لأنهما رأياه في السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، كان عليه السلام، إذا رأى محتاجاً طلب له، وإذا رأى مضيقاً وسع ليه فقالا له: فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه. { قال لا يأتيكما طعامُ تُرزِقَانِه } في النوم، { إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكُما } تأويله في الدنيا. أو: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة لتأكلاه إلا أخبرتكما به، ما هو؟ وما لونه؟ وما صفته؟ وكم هو؟ قبل أن يأتيكما، إخباراً بالغيب، فيأتيهما كذلك معجزة. وصَفَ نفسَه بكثرة العلم والمكاشفة ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد. ثم قال لهما: { ذلكما مما علمني ربي } بالوحي والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. رُوي أنهما قالا له: من أين لك هذا العلم، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: { ذلكما مما علمني ربي إني تركتُ مِلّةََ } طريقة { قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } أي: علمني ذلك لأني تركت ملة أهلِ الكفر، { واتبعتُ ملة آبائي إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ } ، وإنما قال ذلك تمهيداً للدعوة، وإظهاراً أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به.

السابقالتالي
2