الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ }

قلت: نوحى: نعت لرجال، وكذا من أهل القرى: نعت ثان، وحتى: غاية لمحذوف، أي: وما أرسلنا إلا رجلاً يوحى إليهم فأوذوا مثلك، ودام عليهم، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا. يقول الحق جل جلاله: { وما أرسلنا من قبلك } يا محمد { إلا رجالاً } بشراً لا ملائكة، وهو رد لقولهم:لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [فصلت: 14]، وقيل: معناه: نفي استنباء النساء. وصفة أولئك الرجال: { يوحَى إليهم } كما أوحي إليك، فتميزوا بالوحي عن غيرهم، وهم { من أهل القُرى }. وهم المدن والأمصار، والمداشر الكبار لأنهم أحلم وأعلم، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة. قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية، ولا من النساء ولا من الجن. قال ابن عطية: والتَّبَدِّي مكروه إلا في الفتن، وحين يُفَرُّ بالدين، لحديث: " يُوشِكُ أن يَكونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنما يَتْبَعُ بها سَعَفَ الجِبَالِ... " الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع. هـ. قلت: والفتنة تتنوع بتنوع المقامات ففتنة أهل الظاهر: تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن، وفتنة أهل الباطن: تعذر جمع القلب بالله لكثرة الحس، وتعرض الشواغل والعلائق. فمن وجد ذلك في الحواضر فلينتقل إلى البوادي، إن وجد من يعينه على الدين. والغالب أن الحواضر في هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات، وتعتري فيها الشواغل والشواغب، بخلاف البادية. فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسَلَمة: خوف فتنة الظاهر، فأولى خوف فتنة الباطن لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله. ثم قال ابن عطية: وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تعرب في الإسلام " وقال: " مَن بَدَا جَفَا " وعن معاذ بن جبل أنه قال: الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الإِنْسَانِ، كذِئبِ الغَنَمِ يَأخُذُ الشَّاةَ القَاصية فإِيَّاكُمْ والشِّعاب، وَعَليكم بالمَسَاجِدِ، والجَمَاعَاتِ، والعَامةَ. ثم قال: ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن ذلك البدو لم يكن في أهل العمود، بل بَتَقَرِّ في منازل وربوع، والثاني: إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر، كما هي بنات الحواضر الصغار بَدْوٌ بالإضافة إلى الحواضر الكبار.هـ. قلت: فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده في جبل أو شِعْبٍ، وإما إن تقرر في جماعة يقيمون الدين، ويجتمعون عليه، فليس بتعرب ولا بدو. ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السلام. والحاصل: أن أهل القلوب بفتشون على مصالح قلوبهم، فأينما وجدوها فهي حاضرتهم. وقد ظهر في البوادي أكابر من الأولياء، ربما لم يظهروا في الحواضر. والله تعالى أعلم. ثم قال تعالى: { أفلم يسيروا } أي: كفار مكة، { في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من المكذبين لرسلهم: كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خراباً دارسة، فيحذروا تكذيبك، ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة { ولَدَار الآخِرَةِ } أي: ولدار الحياة الآخرة { خير للذين اتقوا } الشرك والمعاصي، { أفلا تعقلون } ، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير.

السابقالتالي
2 3