الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

يقول الحق جل جلاله: { وهو الذي خلق السماوات والأرض } وما بينهما وما فيهما { في } مقدار { ستة أيام } من أيام الدنيا، أو خلق العالم العلوي والسفلي في مقدار ذلك. وجمع السماوات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. { وكان عرشه على الماء } قيل: لم يكن بينهما حائل، وكان موضوعاً على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل: كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي. قلت: الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه: أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية: هو أسرارالذات الأزلية الجبروتية، كما أن الأكوان هي أنوار الصفات الملكوتية، ولا شيء معه، { سبحانه وتعالى عما يشركون }. ونقل بعض أهل التاريخ: أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوته صفراء، ذكروا من عظمتها وسعتها، ثم نظر إليها، فذابت من هيبته، فصارت ماء، فكان العرش مرتفعاً فوقها، ثم اضطرب ذلك الماء، فعلته زبدة، خلق منها الأرض، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السماوات. هـ. خلق ذلك { لِيبلُوكم أيُّكم أحسن عملاً } أي: ليختبركمْ اختباراً تقوم به الحجة عليكم، { أيكم احسن عملاً } بالزهد في هذا العالم الفاني، وتعلق الهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي: أي: يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم، كيف تعملون؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها. ثم قال: فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ". والمعنى: أكمل علماً وعملاً. هـ. قال المحشي: ويتجه كون المعنى: أيكم أكثر شكراً لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف، فإذا لم يبق في الأرض من يعبد الله انقضت الدنيا، وجاءت الساعة، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح والمتبادر ما قدمناه، وحاصله: أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم، ولتدله على خالقه فيجني بها ثمار معرفته تعالى، ويعترف بشكره، وإفراد عبادته. وقد جاء: " خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي ". قلت: فيكون المعنى: هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه، ليختبركم أيكم أحسن عملاً بالاشتغال بالله، والعكوف في حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون، والاشتغال بحسه، مع كونه خُلق من أجله.

السابقالتالي
2 3