الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } * { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }

قلت: إنما قال هنا وفي قصة شعيب: ولما، بالواو، وفي قصة صالح ولوط: فلما، بالفاء لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد، في الفاء التي تقتضي التسبب، كما تقول: وعدته فما جاء الوعيد كان.. الخ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو، قاله الزمخشري. يقول الحق جل جلاله: { ولما جاء أمرُنا }: عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، { نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا } ، وكانوا أربعة آلاف، { ونجيناكم من عذابٍ غليظ } ، وهو ريح السموم، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير لبيان ما نجاهم منه، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم. ويحتمل أن يريد النجاة الأولى: من عذاب الدنيا، وهو الريح الذي نزل بقومهم، وبالنجاة الثانية: عذاب الآخرة، وهو العذاب الغليظ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح. { وتلك عادٌ } الإشارة إلى القبيلة، أو إلى قبورهم وآثارهم تهويلاً وتهديداً، { جحدوا بآيات ر بهم } كفروا بها، { وعَصوا رسله } ، والجمع إما لأنَّ من عصى رسولاً فكأنما عصى الكل لأنهم متفقون في الدعوة، مع أنهم أُمروا بطاعة كل رسول. وإمَّا على إرادة الجنس كقولك: فلان يركب الخيل، وإن يركب إلا فرساً واحداً. { واتبعوا أمرَ كل جبارٍ عنيد } يعني: كبراءهم الطاغين، والعنيد: الطاغي، والمعنى: عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، { وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويومَ القيامة } أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين في الدنيا أهلكتهم، وفي الآخرة أحرقتهم. { ألا إن عاداً كفروا ربَّهم } جحدوه، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم، بالإتيان بحرف التنبيه، وتكرار اسم عاد { ألا بعداً لعادٍ } أي: هلاكاً لهم، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له، مستوجبين لما نزل بهم بسبب ما حكي عنهم. وإنما كرر " ألا " وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم، وحثاً على الاعتبار بحالهم. ثم بيَّنهم بقوله: { قوم هود }. فهو عطف بيان لعاد، وفائدته: تمييزهم عن عاد الثانية التي هي عاد إرم، والإيمان إلى استحقاقهم للبعد، بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي. الإشارة: من أراد سلامة الدارين والظفر بقرة العين، فليتمسك بالإيمان بالله، وبكل رسول أتى من عند الله، وليتبع من يدعو إلى الله. وهم أهل المحبة والوداد، السالكون مناهج الرشاد والسداد. وليتجنب كل جبار عنيد، وهو: كل من يحول بينك وبين الله، ويغفلك عن ذكر الله. وقوله تعالى: أَلا بُعداً لعاد وأخواتها، فيها تخويف لأهل القرب والوصال. قال في الإحياء: ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها: خوف الإعراض، وأشد منه: خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع: ألا بُعداً لعاد، ألا بُعداً لمدين، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال: ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا: أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ. ثم ذكر قصة صالح عليه السلام، فقال: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً }.