قلت: يوم يأتي: العامل في الظرف: " لا تكلم " ، أو: اذكر، مضمر. والضمير في " يأتي ": يعود على اليوم. وقال الزمخشري: يعود على " الله " لعود الضمير عليه في قوله: إلا بإذنه، وضمير " منهم " على أهل الموقف المفهوم من قوله: لا تكلم نفس. يقول الحق جل جلاله: { يوم يأتي } ذلك اليوم المشهود، وهو: يوم الجزاء { لا تكلم } لا تتكلم { نفس } بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة { إلا بإذنه } تعالى، وهذا كقوله:{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰ } [النبأ: 38]، وهذا في موقف، وقوله{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35 ـ 38]، في موقف آخر. والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة. ثم قسّم أهل الموقف، فقال: { فمنهم شقي } وجبت له النار بمقتضى الوعيد لكفره وعصيانه. { و } منهم { سعيد } وجبت له الجنة بمقتضى الوعد لإيمانه وطاعته. { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } ، الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رده. ويستعملان في أول النهيق وآخره. أو الزفير: صوت المحزون، والشهيق: صوت الباكي. أو الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر. والمراد بهما: الدلالة على شدة الكرب والغم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي. { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } أي سماوات النار وأرضها. وهي دائمة أبداً، ويدل عليه قوله تعالى:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم: 48]، أو يكون عبارة عن التأبيد: كقوله العرب: ما لاح كوكب وما ناح الحمام، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام، وهذا أصح. وقوله: { إلا ما شاء ربك } ، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه ما ذكره البقاعي، قال: والذي ظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لا سيما إذا تأمل القطع في مثل قوله:{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48]، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله: { وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ } جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جُزم القوم فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبره به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً. فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة.