الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } * { فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً } * { فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } * { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } * { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } * { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } * { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } * { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } * { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ } * { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } * { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }

يقول الحق جلّ جلاله: { والعادياتِ ضَبْحاً } ، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عَدَون، وحكى صوتها ابنُ عباس، فقال: أحْ، أحْ. وانتصاب " ضبحاً " على المصدر، أي: يضبحن ضبحاً، أو: بالعاديات، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً، أو: حال، أي: ضابحات. { فالمُورِيات قَدْحاً } الإيراء: إخراج النار والقدح: الصكّ يقال: قدح فأوْرى، أي: فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو. وانتصاب " قدحاً " كانتصاب ضبحاً. { فالمُغيراتِ } التي تغير على العدوّ، { صُبْحاً } أي: وقت الصبح، وهو المعتاد في الغارات، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون. وإسناد الإغارة ـ التي هي متابعة العدو، والنهب والقتل والأسر ـ إلى الخيل، وهي حال الراكب عليها، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم. وقوله تعالى: { فأثَرْنَ به نَقْعاً } أي: غباراً، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، إذا المعنى: واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن، أي: هيّجن به غباراً، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل. والحاصل: أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح. { فَوسَطْنَ به } أي: فوسطن بذلك الوقت { جَمْعاً } من جموع الأعداء والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة، المترتبة على الإيراء، والمترتب على العدْو. وجواب القسم: قوله تعالى: { إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود } أي: لَكفور، من: كند النعمة: كَفَرها. وقيل: الكنود هو الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده. وقيل: اللوّام لربه، يَعْد المحنَ والمصائبَ، وينسى النعم والراحات. وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه، وفي التعظيم لجنابه، وبالجملة فهو القليل الخير، ومنه: الأرض الكنود، التي لا تُنبت شيئاً. قال: في الحاشية الفاسية: والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته، ولذلك كان حريصاً على المال، ويرتكب المشاق في جمعه، ولا يُبالي بآخرته، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته، ولا يُقَدِّم لها، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه، وطلبه من السعي للآخرة، وقد ضَمِنَ له رزقه، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله: { أفلا يعلم... } الآية. هـ. والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله، وهو الأظهر، أو في مُعَيَّن، كالوليد أو غيره. قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المُنذر بن عمرو الأنْصاريّ، وكان أحد النقباء، فأبطأ خبره عنه صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال المنافقون: إنهم قُتلوا، فنزلت السورة بسلامتها، بشارةً له صلى الله عليه وسلم ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية، وهو خلاف قول الجمهور، كما تقدّم.

السابقالتالي
2