الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } * { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }

قلت: اللام في ليُضلوا لام كي، متعلقة بآتيت محذوفة، أو بالمذكورة، ولفظ ربنا تكرار، أو تكون لام الأمر، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره. { فلا يؤمنوا }: جواب الدعاء أو عطف على ليضلوا. يقول الحق جل جلاله: { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأهُ زينةً }: ما يتزين به من الملابس والمراكب، ونحوها، { وأموالاً }: أنواعاً من المال { في الحياة الدنيا } استدراجاً، { ربنا } آتيتهم ذلك { ليُضلوا عن سبيلك } طغياناً وبطراً بها، وصرفها في غير محلها، أو ربنا اجعلهم ضالين في سبيلك، كقول نوح عليه السلاموَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } [نوح:24] لما أيس من إيمانهم، { ربنا اطمسْ على أموالهم } أي: أهلكها وامحقها، { واشْدُدْ على قلوبهم } بالقسوة، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، { فلا يؤمنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليم } أي: إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهراً. وفي الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم بالمعصية، أو الكفر، وقد فعله سعد بن أبي وقاص على الذي شهد فيه بالباطل، ووجْهُ جوازه مع استلزامه وقوع المعاصي: أنه لم يُعتبر من حيث تاديته إلى المعاصي، ولكن من حيث تأديته إلى نِكاية الظالم وعقوبته، وهذا كما قيل في تمني الشهادة أنه مشروع، وإن كان يؤدي إلى قتل الكافر للمسلم، وهو معصية ووهن في الدين، ولكن الغرض من تمنى الشهادة ثوابُها، لا نفسها. { قال } تعالى: { قد أجيَبت دعوتُكما } يعني موسى وهارون، وكان يُؤمِّن على دعاء أخيه، { فاستقيما } أي: اثبتا على ما أنتما عليه من الاستقامة والدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة، { ولا تتبعانِّ سبيلَ الذين لا يعلمون }: طريق الجهلة في استعجال الأشياء قبل وقتها، أو في عدم الوثوق والاطمئنان بوعدنا، وقرأ ابن ذكوان: " ولا تتبعان " بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، وهو قليل، قال ابن مالك:
وَلم تَقَعْ خَفِيفَةٌ بَعدَ الأَلفْ   
ويحتمل أن تكون نون الرفع، و " لا " نافية، أي: والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون. الإشارة: دعاء الأولياء على الظالم مشروع بعد الإذن الإلهامي على ما يفهمونه، وقد مكث الشيخ أبو الحسن سنين لم يدع على ابن البراء حتى كان سنة في عرفة، فقال: الآن أًذن لي في الدعاء على ابن البراء... الخ فإن لم يكن إذن فالصبر أوْلى، بل الأولى الدعاء له بالهداية، حتى يأخذ الله بيده وهذا مقام الصديقين، فإذا وقع الدعاء مطلقاً وتأخرت الإجابة فلا يستعجل، فيكون تبع سبيل الذين لا يعلمون، وفي الحكم: " لا يكن تأخرُ أمدِ العطاءِ مع الإلحاحِ في الدعاء موجباً ليأسك، فقد ضمن لك الإحابة فيما يختار لك لا فيما تختار أنت لنفسك، وفي الوقت الذين يريد، لا في الوقت الذي تريد " ، وقال أيضاً: " لا يشككنَّك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه لئلا يكون ذلك قَدْحاً في بصيرتك، وإخماداً لنور سريرتك " وبالله التوفيق. ثم أجاب دعاءهما، فقال: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ }.