قلت: الضمير في { منه } يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت: والأحسن أن يعود على الله تعالى لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ: { ولا أصغر } ، { ولا أكبر } بالفتح فعطف على { مثقال } ممنوع من الصرف، أو مبني مع " لا " ، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، و { إلا في كتاب }: خبر. يقول الحق جل جلاله: { وما تكون في شأنٍ } أي: أمر من الأمور، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. { ولا تعملون من عمل } ، ومعنى الآية: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، { وما تتلو منه من قرآنٍ } أي: وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي: تأخذه عنه. { ولا تعملون من عملٍ } أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي: لا تعلمون شيئاً { إلا كنا عليكم شهوداً }: رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، { إذ تُفيضون فيه }: حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال: أفاض الرجل في الأمر: إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه:{ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } [البقرة: 198]، { وما يَعْزُبُ عن ربك } أي: ما يغيب عنه { مثقال ذرةٍ }: ما يوازن نملة، { في الأرض ولا في السماء } والمراد: لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. هـ. { ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين } أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه. الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص. فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية: " إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟ ". وقال ـ عليه الصلاة والسلامـ: " أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان "