الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }

يقول الحق جل جلاله: { وما يتبع } أكثر المشركين في اعتقادهم { إلا ظَنّاً } مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهوبة. والمراد بالأكثر الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرضى بالتقليد الصرف، { إن الظن لا يغنى من الحق } من علم التحقيق { شيئاً } ، أو { من } الاعتقاد { الحق شيئاً } من الإغناء. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. هـ. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. { إن الله عليم بما يفعلون } هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم. الإشارة: الناس على قسمين: أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح. وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجود غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم: لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى اشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم:
مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ   
وقال آخر:
عجبتُ لِمْنَ يَنبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد   
وقال في الحكم: " شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا... فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه! ". ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له: ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضي الله عنه: أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه. فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: معنى كلامه: أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولانقادوا له. هـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم. ولما ذكر أن اتباع الظن غير كاف، ذكر ما يجب اتباعه وهو القرآن، فقال: { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ }.