الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

{ إنّ الذين قالوا ربّنا الله } أي: تجرّدوا عن العلائق ورفضوا العوائق وانقطعوا إلى الله عن كل ما سواه ورحموا البصر عن طغواه فصدقاً { قالوا }: ربنا الله، إذ لو بقيت منهم بقايا ولم يأمنوا التلوينات في عرصة الفناء لم يقولوا صادقين: { ربّنا الله } { ثمَّ اسْتَقاموا } بالتحقق به في العمل والتحفظ به في مراعاة آداب الحضرة عن الزلل والخطل، بحيث لم ينبض منهم عرق ولم يتحرك منهم شعرة إلا بالله ولله { فلا خَوْف عليهم } إذ لا حجاب ولا عقاب { ولا هم يَحْزنون } إذ لا مرغوب إلا وهو حاصل لهم فلم يفت منهم شيء ولا يفوت كما قيل: إنّ في الله عزاء لكل مصيبة ودركاً عن كل ما فات. { أولئك أصحاب الجنة } المطلقة الشاملة للجنان كلها { خالدين فيها جَزَاءَ بما كانوا يَعْمَلون } في حال السلوك حتى الوصول { حتى إذا بَلَغ أشُدّه وبَلَغ أربعين سنة } لما كانت النفس ممنوّة بتدبير البدن لتوقف استكمالها عليه مشغولة عن كمالها به في أول النشأة لم تنفتح بصيرتها ولم يصف إدراكها ولم يتبين رشدها إلا وقت بلوغ النكاح كما قال في اليتامى:حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء، الآية:6] وذلك هو الأشد الصوري. ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولة إلى هذا الحد لا تتفرغ إلى تحصيل مادة النوع عن إيرادها ما يزيد في الأقطار من الغذاء زائداً على بدل المتحلل من البدن لضعف الأعضاء وشدةّ الاحتياج إلى النمو والتصلب، فالنفس حينئذ منغمسة في البدن، مستعملة للطبيعة في ذلك العمل، ذاهلة عن كمالها إلى هذا الأجل، فلما قربت الآلات من حدّ كمالها ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها تفرّغت الطبيعة إلى ذخيرة مادة النوع من الشخص لاستغنائها بكمال الشخص عن مادته فتفرّغت النفس إلى تحصيل كمالها، فانفتحت بصيرة عقلها وظهرت أنوار فطرتها واستعدادها وتنبّهت عن نومها في مهدها، وتيقظت عن سنة غفلتها وتفطّنت لقدس جوهرها وطلبت مركزها وغايتها لأمرين: صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال وفراغها عن تخصيص البدن بالإقبال لقلة الإشغال، لكنها ما دامت سنّ النموّ باقية وزيادة الآلاف في القوة والشدة ممكنة ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية وما تجرّدت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب القدسية للاشتغال المذكور وإن قلّ وذلك إلى منتهى الثلثين من السن كما تبين في علم الطب، فلما جاوزتها وأخذت في سنّ الوقوف أقبلت إلى عالمها وأشرقت أنوار فطرتها فاشتدّت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليها، فأخذ كافل الأيتام الحقيقية الذي هو روح القدس أن آنس رشدها في دفع أموالها التي هي الحقائق والمعارف والعلوم والحكم إليها، لبلوغها نكاح الغواني من المفارقات القدسية والنورانيات الجبروتية وذلك وقت سيرها في صفات الله إلى ذات الله حتى الفناء التام بالاستغراق في عين الجمع لإمكان السير في أفعاله من وقت الأشدّ الصوري إلى أشدّ هذا الأشدّ المعنوي الذي نهايته الأربعون تقريباً.

السابقالتالي
2