الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } * { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } * { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } * { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }

{ أنى لهم الذكرى } أي: الاتعاظ والإيمان بمجرد انكشاف العذاب { وقد جاءهم } ما هو أبلغ منه من الرسول المبين طريق الحق بالمعجز والبرهان ودعاهم إلى سبيله بالطرق الثلاثة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن { ثمَّ } أعرضوا ونسبوه إلى الجنون والتعليم المتنافيين لفرط احتجابهم وعنادهم { إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً } بتعطيل الحواس والإدراكات { إنكم عائدون } إليه. { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي: وقت تمام الفراغ إلى إدراك العذاب المؤلم بتلك الهيئات وتحقق الخلود { إنّا منتقمون } معذّبون بالحقيقة أو بالردّ إلى الصحة والحياة البدنية، إنكم عائدون إلى الكفر لرسوخه فيكم { يوم نبطش البطشة الكبرى } بزوال الاستعداد وانطفاء نور الفطرة بالرين الحاصل من ارتكاب الذنوب والاحتجاب الكلي الموجب للعذاب الأبدي كما قال:كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين، الآيات:14 - 15] ننتقم منهم بالحقيقة بالحرمان الكلي والحجاب الأبدي والعذاب السرمدي. وإن فسرنا القيامة بالكبرى: فالدخان هو حجاب الأنية الذي يغشى الناس عند ظهور نور الوحدة بطغيان النفس لانتحال صفات الربوبية وغلبة سكرة يوم الجمع المورثة للإباحة إذ هو من بقية النفس الأرضية اللطيفة بنور الوحدة المرتقبة إلى محل الشهود التي تأتي بها سماء الروح لتأثيره فيها بالتنوير إذ لم تحترق بالكلية بنار العشق بل صفت وتلطفت وتصعدت. فأما المؤمن بالإيمان الحقيقي الموحد التام الاستعداد، المحب الغالب المحبة، فيصيبه كهيئة الزكمة، أي: السكرة التي قال فيها أبو زيد قدّس الله روحه: سبحاني ما أعظم شأني. والحسين بن منصور رحمه الله: أنا الحق. ثم يرتفع عنه سريعاً لمزيد العناية الإلهية وقوة الاستعداد الفطرية وشدة المحبة الحقيقية، فيتنبه لذلك ويتعذب به غاية التعذب ويشتاق إلى الانطماس في عين الجمع غاية الشوق، فيقول: هذا عذاب أليم، ويطلب الفناء الصرف، كما قال الحلاج قدّس الله روحه: بيني وبينك أني ينازعني فارفع بفضلك أني من البين. ويدعو بلسان التضرع والافتقار:رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } [الدخان، الآية:12] بالإيمان العيني عند كشف الحجاب الآني، { أنى لهم الذكرى } من أين لهم ذكر الذات والإيمان العيني في مقام حجاب الأنائية، { وقد جاءهم رسول مبين } أي: رسول العقل المبين لوجوداتهم وصفاتهم، أي: إنما احتجبوا بحجاب الأنية لظهور العقل وإثباته لوجوداتهم، فكيف ذكرهم للذات تعجب من تذكرهم مع كونهم عقلاء ثم بيّن كونهم عشاقاً مشتاقين بقوله: { ثم تولوا عنه } لقوة المحبة وفرط العشق { وقالوا معلم } أي: من عند الله بإفاضة العلم عليه { مجنون } مستور الإدراك، محجوب عن نور الذات، كما قال جبريل عليه السلام: " لو دنوت أنملة لاحترقت ". { إنا كاشفوا العذاب } أي:عذاب الحجاب والحرمان لإعراضهم بقوة العشق عن الرسول قليلاً بطلوع نور الوجه الباقي وإشراق سبحاته وإحراقها ما انتهى إليه بصره من خلقه { إنكم عائدون } بالتلوين إلى الحجاب بعد تجلي نور الذات لبقية الآثار إلى وقت التمكين { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي: وقت الفناء الكلي والانطماس الحقيقي بحيث لا عين ولا أثر { إنا منتقمون } أي: ننتقم بالقهر الأحدي والإفناء الكلي من وجوداتهم وبقاياهم فيطهرون عن الشرك الخفي بالوجود الأحدي.

السابقالتالي
2