{ وقالوا لو شَاءَ الرَّحمن ما عَبَدْناهم } لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشيءا بمشيئة الله تعالى افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار، وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان بل على سبيل العناد والإفحام، ولهذا ردّهم الله تعالى بقوله: { ما لَهُم بذلِكَ مِن عِلم } إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين لا ينسبون التأثير إلا إلى الله فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعاً ولا ضراً { إنْ هم إلاَّ يخرصون } لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل حين عظموهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم كما قال قوم هود:{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } [هود، الآية:54]، ولما خوّفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم أجاب بقوله:{ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } [الأعراف، الآية:80] إلى قوله:{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } [الأعراف، الآية:81]. { وقالوا لولا نزل هذا القرآن } إلى آخره، لما لم يكونوا أهل معنى ولا حظ لهم إلا من الصورة لم يتصوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يعظمونه به إذ لا مال له ولا حشمة ولا جاه عندهم، وعظم في أعينهم الوليد بن المغيرة وأضرابه كأبي مسعود الثقفي وغيره لمكان حشمتهم ومالهم وخدمهم، فاستخفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا يناسب حاله اصفطاء الله إياه وكرامته عنده، ولو كان هذا القرآن من عند الله لاختار له رجلاً عظيماً كالوليد وأبي مسعود فأنزل عليه لتناسب حاله عظمة الله، فردّهم الله لأنهم ليسوا بقاسمي رحمة الدين والهداية التي لا حظ لهم منها ولا معرفة لهم بها، بل ليسوا بقاسمي ما هم يعرفونه ويتصرّفون فيه من المعيشة والحطام الدنيوي الذي يتهالكون على كسبه ولا يقصدون إلا إيّاه، فكيف بما لم يشموا عرفه ولم يعرفوا حاله. { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } قرىء: يعش بضم الشين وفتحها، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشي لعارض أو متعمداً من غير آفة في بصره، وعشي إذا أيف بصره. فعلى الأول معناه: ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة لإدراك ذكر الرَّحمن أي: القرآن النازل من عنده وفهم معناه وعلم كونه حقاً فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغى وحسد أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته لاحتجابه بالغواشي الطبيعية واشتغاله باللذات الحسيّة عنه، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نقيض له شيطاناً جنيّاً فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات وحرص عليه من الزخارف أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه، أو إنسياً يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه: ومن أيف استعداده في الأصل وشقي في الازل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر وقصر عن فهم معناه نقيض له شيطاناً من نفسه أو من جنسه يقارنه في ضلالته وغوايته.