الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } * { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } * { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ }

سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحداً { هنّ أمّ } أي: أصل { الكتاب وأُخَر مُتَشابهات } تحتمل معنيين فصاعداً ويشتبه فيها الحق والباطل، وذلك أنّ الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا يحتمل التكثر والتعدّد، وله وجوه متكثرة إضافية متعدّدة بحسب مرائي المظاهر. وهي ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد، يلتبس فيها الحق بالباطل، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل بما يناسبه، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأمّا العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه الباقي في أية صورة وأي شكل كان، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها المتشابهات فيردونها إلى المحكمات متمثلين بمثل قول الشاعر:
وما الوجه إلا واحد غير أنه   إذا أنت أعددت المزايا تعدّدا
وأمّا المحجوبون { الذين في قُلُوبهم زَيغ } عن الحق { فيتبعون ما تَشَابه } لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم، ويتبعونه المتشابه، فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم { ابْتِغاء الفِتْنة } أي: طلب الضلال والإضلال الذي هم بسبيله { وابْتِغَاء تَأْويله } بما يناسب حالهم وطريقتهم.
إذا اعوج سكين فعوّج قرابه   
فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من المعاني، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب { وما يَعلم تَأويله إلا الله والراسِخونَ في العلمِ } العالمون، يعلمون بعلمه، أي: إنما يعلمه الله جميعاً وتفصيلاً { يقولون آمنا به } يصدّقون علم الله به، فهم يعلمون بالنور الإيماني { كلّ من عِند ربنا } لأن الكلّ عندهم معنى واحد غير مختلف { وما يَذكر } بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجرّدت عن قشر الهوى والعادة. { ربنا لا تُزغْ قلوبنا } عن التوجه إلى جنابك، والسعي في طلب لقائك، والوقوف ببابك، بالافتتان بحبّ الدنيا وغلبة الهوى، والميل إلى النفس وصفاتها، والوقوف مع حظوظها ولذاتها { بعد إذْ هَدَيتنا } بنورك إلى صراطك المستقيم، والدين القويم، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم { وهَبْ لنا من لدُنك رحمةً } رحيمية تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك { إنك أنت الوهاب } { ربنا إنك جَامع الناس لِيَوم لا رَيْبَ فيه } أي: يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك { لن تُغْني عنهم أمْوَالهم ولا أوْلادهم من الله شَيئاً } بل هي سب حجابهم وبُعدهم من الله وتعذيبهم بعذابه لشدّة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.