الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ ولقد صدقكم الله وعده } أي: وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا، فما دمتم على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا والإعراض عن الحق، مجاهدين لله لا للدنيا، كان الله معكم بالنصر، وإنجاز الوعد، وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم { حتى إذا فَشلْتُم } أي: جبنتم بدخول الضعف في يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة { وتَنازَعتم } في أمر الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن حظ الدنيا، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من ملازمة المركز، وملتم إلى زخرف الدنيا { من بعدِ ما أرَاكم ما تحبون } من الفتح والغنيمة وحان زمان شكركم لله، وشدّة إقبالكم عليه، فذهلتم عنه، فكان أشرفكم يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره { ثم صرفكم عنهم ليَبْتَليكم } بما فعلتم فكان الابتلاء لطفاً بكم وفضلاً { والله ذو فضل على المؤمنين } في الأحوال كلها، إما بالنصرة وإما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدّوا له نفوسهم موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله: " مطيع من أطاعني ". كما يكونون مع الله يكون الله معهم، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات، وليتمرّنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكاً لهم، ومقاماً، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا عن الحق، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة، وليكون عقوبة عاجلة للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب، خصوصاً حجاب محبة النفس، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى:وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [آل عمران: 152]، إذ الابتلاء كان سبب العفو. { فأثابكم غمّاً بغمّ } أي: صرفكم عنهم فجازاكم غماً بسبب غمّ لحق رسول الله من جهتكم، بعصيانكم إيّاه، وفشلكم وتنازعكم، أو غمّاً بعد بغمّ أي: غمّاً مضاعفاً لتتمرّنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها، وتتعوّدوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا { تحزنوا على ما فَاتَكم } من الحظوظ والمنافع { ولا ما أصَابكم } من الغموم والمضارّ.