الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } * { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ }

{ قد كان لكم آية } يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد { في فئتين التقتا فئة } القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده { تقاتل في سبيل الله وأخرى } هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحقّ. ترى الفئة الأولى، مع قلّة عددهم، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأييد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده { والله يؤيد بنصره من يشاء } من أهل عنايته المستعدّين للقائه { إنّ في ذلك لَعِبرة } أي: اعتباراً أو أمراً يُعْتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلميّ من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية. { زُين للناس حبّ الشهوات } لأن الإنسان مركب من العالم العلويّ والسفليّ، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية، والماء الأجاج من الذّات الحسيّة، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية، فبقي مهجوراً من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به، مبلوّاً بأنواع النصب والتعب، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل، وداعٍ ينادينه من الهوى والشيطان، فتبعه فصادف منزلاً نزهاً، وروضة أنيقة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكناً وقال:
عند الصباح يَحْمد القوم السري   والداعي قد هيئ له القرى
فذلك حبّ الشهوات، أي: المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفليّ، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها، بحسب ما فيه من العالم العلوي، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذّ وأصفى مع ذلك وأبقى، وهو معنى قوله: { والله عنده حُسْن المآب }.