الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

{ واعْتَصمُوا بحَبْل الله جَميعاً } أي: بعهده في قوله:أَلَسْتُ بِرَبِّكُم } [الأعراف، الآية: 172] مجتمعين على التوحيد { ولا تُفرقوا } باختلاف الأهواء، فإن التفرّق عن الحق إنما يكون باختلاف الطبائع واتباع الهوى وتجاذب القوى، والموحد عنها بمعزل، إذ تنوّر قلبه بنور الحق واستنارت نفسه من فيض القلب فتسالمت القوى وتصادقت. { واذْكروا نِعْمَةَ الله عَليكم } بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب { إذ كُنْتم أعْدَاء } لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية، بُعَدَاء عن النور والمقاصد الكلية التي تقبل الشركة وتزال بالاتفاق في مهوى الظلمة { فألّف بينَ قُلُوبكم } بالتحابّ في الله لتتنوّر بنوره { فأصبحتُم بِنِعْمته إخواناً } في الدين، أصدقاء في الله { وكنتم على شَفَا حُفْرة من النار } هي مهوى الطبيعة الفاسقة ومحل الحرمان والتعذيب { فأنقذكُم منها } بالتواصل الحقيقيّ بينكم إلى سدرة مقام الروح، وروح جنة الذات { كذلك يبيّن الله لكم آياته } بتجليات الصفات اللطيفة والإشراقات النورية { لعلكم تَهْتدون } إلى جماله وتجلي ذاته. { ولتكن منكم أمة يَدْعون إلى الخَيْر } أي: ليكن من جملتكم جماعة عالمون، عاملون، عارفون، أولو استقامة في الدين كشيوخ الطريقة { يدعونَ إلى الخَير } فإن من لم يعرف الله لم يعرف الخير، إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يمكن للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق تعالى، والوصول إليه، والإضافي ما يتوصل به إلى المطلق أو الكمال المخصوص بكلّ أحد على حسب اقتضاء استعداده الخاص. فالخير المدعوّ إليه، إما الحق تعالى، وإما طريق الوصول. والمعروف كل أمر واجب أو مندوب في الدين، يتقرّب به إلى الله تعالى، والمنكر كلّ محرّم أو مكروه يبعد عن الله تعالى ويجعل فاعله عاصياً أو مقصراً مذموماً. فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة، لم يكن له مقام الدعوة ولا مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن غير الموحد ربما يدعو إلى طاعة غير الله وغير المستقيم فى الدين وإن كان موحداً ربما أمر بما هو معروف عنده، منكر في نفس الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده، معروف في نفس الأمر، كمن بلغ مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق، فكثيراً ما يستحلّ محرّماً كبعض المسكرات والتصرّف في أموال الناس، ويحرّم حلالاً بل مندوباً كتواضع الخلق ومكافأة الإحسان وأمثال ذلك { وأولئك هُم } الأخصاء بالفلاح، الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في أرضه. { ولا تكونوا } ناشئين بمقتضى طباعكم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعكم على طريقة واحدة { كالذين تفرقوا } واتبعوا الأهواء والبدع { واختلفوا من بعد ما جَاءَهم } الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة، واتفاق الكلمة. فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة وأهواء متفرّقة، وعادات وسيراً متفاوتة، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم، ويترتب على ذلك فهوم متباينة، وأخلاق متعادية، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرّقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب، ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: " لا بدّ للناس من إمام برّ أو فاجر ".

السابقالتالي
2