الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } * { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

{ كان الناس أمّة واحدة } أي: على الفطرة ودين الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: " كلّ مولود يولد على الفطرة " ، وهو في عهد الفطرة الأولى على الحقيقة، أو في زمن الطفولة، أو في عهد آدم عليه السلام { كان الناس أمّة واحدة } ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم، وتفرّق أهوائهم. فإن تضادّ أصول بنيتهم ومراكز أبدانهم باختلاف البقاع والأهوية، اقتضى ذلك وكذا ما في طباعهم من جذب النفع الخاص ودفع الضرّ الخاص لاحتجاب كل بمادة بدنه واقتضاء الحكمة الإلهية ذلك لمصلحة النشوء والنماء يقتضي التعادي والتخالف { فبعثَ الله النبيين } ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن العداوة إلى المحبة، فتفرّقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فأمّا السفليون الذين رسخت في طباعهم محبة الباطل وغلب على قلوبهم الرين وطبع عليها وعميت وزال استعدادهم بغلبة هواهم، فازدادوا خلافاً وعناداً، فكأنهم ما اختلفوا إلا عند بعثهم وإتيانهم بالكتاب الذي هو سبب ظهور الحق والوفاق حسداً بينهم، ناشئاً من عند أنفسهم، وغلبة هواهم واحتجابهم. وأمّا العلويون الذين بقوا على الصفاء الأصليّ والاستعداد الأول فهداهم الله إلى الحق الذي اختلفوا فيه وزال خلافهم وسلكوا الصراط المستقيم. { أم حَسِبْتم أن تَدْخلوا } جنّة تجلّي الجمال { ولما يَأْتكم } حال { الذين } مضوا { من قَبْلكم مستهم } بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار، وضرّاء المجاهدة والرياضة وكسر النفس بالعبادة { وزلزلوا } بدواعي الشوق والمحبة عن مقارّ نفوسهم ليظهروا ما في استعدادهم بالقوّة { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نَصْر الله } أي: حتى تضجروا من طول مدّة الحجاب، وكثرة الجهاد من الفراق، وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال، وذوق الوصال، وطلبوا نصر الله بالتجلي على قمع صفات النفوس مع قوة مصابرتهم، وحسن تحملهم، لما يفعل المحبوب ويريد بهم من ابتلائهم بالهجران، وإذاقتهم طعم الفرقة لاشتداد قوة المحبة، فكيف بغيرهم؟ فأجيبوا إذا بلغ جهدهم ونفدت طاقتهم وقيل لهم { ألا إنّ نصر الله قريب } أي: رفع الحجاب وظهرت آثار الجمال.