الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً } المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجرّدها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقرّ النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية. والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها، كما أخبر عنه تعالى في قوله: { فأرسلنا إليها روحنا } وإنما تمثل لها بشراً سويّ الخلق، حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرّك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا: قلباً، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد بمنزلة الأنفحة في الجبن، ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن أي: العقد من منيّ الذكر، والانعقاد من منّي الأنثى لا على معنى أنّ منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة. بل على معنى أنّ القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئاً واحداً. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزء من الولد، فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قوياً ذكورياً كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس، القوية القوى، وكان مزاج كبدها حارّاً كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيراً من الذي ينفصل عن كليتها اليسرى، فإذا اجتمعا في الرحم وكان مزاج الرحم قوياً في الإمساك والجذب. قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام الذكر في شدّة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد فيتخلق الولد، هذا وخصوصاً إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمدّ جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس والله أعلم. { ولنجعله آية للناس } دالة على البعث والنشور { ورحمة منا } عليهم بتكميلهم به بالشرائع والحكم والمعارف وهدايتهم بسبب فعلنا ذلك فهو صورة الرحمة الإلهية المعنوية { وكان أمراً مقضيّاً } في اللوح، مقدراً في الأزل. وعن ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } فدنا منها، فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا كالغلمة مثلاً والمعانقة التي كثيراً ما تصير سبباً للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصاله بها وتعلقه بنطفتها، والحق إنه روح القدس لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده، كما قال: { لأهب لك غلاماً زكياً }.