الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }

{ وتحسبهم أيقاظاً } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسطٌ ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطّلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارّاً لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعباً } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعباً لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم. { وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مرّ تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابْعَثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى:فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ } [التوبة، الآية: 122]. { فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي: أهلها أطيب وأفضل علماً وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله:لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } [الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدّر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرنّ بكم أحداً } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاماً العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرنّ بكم أحداً من القوى النفسانية.

السابقالتالي
2